20‏/06‏/2010


البدء والأحراش
رحابة المضمون وخصوصية البناء
د. أبو المعاطي خيري الرمادي

ترسم رواية البدء والأحراش لسعيد بكر صورة لمجتمع متهرىء , وفرد مهزوم بالفقد وبفشل الوصول إلى الحقيقة , فنرى فيها المجتمع ماخورا كبيرا تمارس فيه الرذيلة بلا خوف , وبلا حرج , وبلا داع .
نرى " هنية " تتفنن فى نسج خيوط الرذيلة لتصنع منها ثوبا لا يبلى , فبعد القبض على السيسى عشيقها وشركها فى تجارة المخدرات ,نصبت فخاخها لابنه الصبى عبد الرحمن ليحل محل أبيه , تظاهرت بكل القيم النبيلة حتى قادت أم عبد الرحمن ابنها إليها .
يقول "عبد الرحمن " الشخصية الرئيسة وراوى الأحداث فى ذات الوقت: " فى الثانية عشرة قادتنى أمى إليها .. أول مرة أراها .. استبقتنى فى الحجرة وقذفت فى فمى بقطع الحلوى .. غمرنى اطمئنان فمضغت الحلوى فى تلذذ .. قالت لن أجهدك , وسوف تواصل دراستك .. فى وقت من الليل تسحبت خلفى غاص ظهرى فى بطنها , وأيقنت أنها تحاول أن تجردنى من ثيابى ([1])
وعبد الرحمن نفسه يعتدى على زميلته فى كلية التجارة فى أثناء رحلة إلى مدينة المنصورة . يقول عن فعلته : " حينما وقف القطار انتظرت أن تجتازنى .. احتككت بها .. حدجتنى ولوت عنقها .. أصررت أن أنالها مهما كلفنى الأمر .. فى خلسة وفى ظلام دار ابن لقمان جذبتها إلى صدرى .. تجمعوا.. وانهالوا فوقى تأنيبا " ([2])
ولم يكتف بهذا , بل وأمام مجلس التأديب الذى عقد له حاول الاعتداء عليها "كانت شاهيناز بين يدى تصرخ .. ألثم جبينها فى لهفة مسعورة .. حملونى وألقوا بى فى الخارج .([3])
والليبى يمتهن القوادة , ويحميها بسياج الزواج , فيتزوج من " سوزان " التى عض الفقر أسرتها، ويعرض جســدها على من يدفع أكثر .
و" أميرة " زوج عبد الرحمن تخونه مع محاميه " صبحى" , وتتهم زوجها الذى رآهما فى وضع غير خلقى ـ فى صفاقة غريبة ـ بالتجسس عليها .
يقول " عبد الرحمن " : " وجدت أميرة فى أحضان صبحى .. أغلقت الباب فى قهر .. غصت فى أحد فوتيهات الصالة .. ثم نمت .. فى الصباح قلت لأميرة
ـ رأيتكما معا
قالت :
ـ أعرف أنك تتجسس على قلت :
ـ لم أتجسس , لكنى رأيتكما صدفة
قالت فى ثبات
ـ وماذا تريد أن تصنع ([4])

والفرد داخل هذا المجتمع مهزوم على طول الخط , وأبعاد الهزيمة متعددة ,لكن بعد الفقد هو أهمها . يقول عبد الرحمن السيسى ملخصا إحساسه بالفقد " عبد الرحمن السيسى هو أنا : مات أبى ولم نعرف مثواه أمى تتسول فى الطرقات .. ولى أنف أفطس مثل أنفها .. هل تصدق ؟ .. أحببت سوزان , لكنها تزوجت بقواد . أميرة تزوجت صبحى .. أميرة هذه زوجتى .. لا تضحك .. وأيضا مات الحمروش , وألقوه فى الماء والحقيقة كان البحر ساكنـا الآن لم يبق لى سوى وليدى " ([5])
تبدأ هزيمة " عبد الرحمن" بافتقاد الأب الذى مات فى أحد السجون , افتقادا بدأ قبل موته . يقول عن أبيه : ما عدت أومن بأبى كوجود رأيته كثيرا معلقا على الحائط ثم لم أعد أعبأ به " ([6])
ثم بافتقاد الأم التى استولى على جسدها رجل أكرش مستغلا سيف الحاجة المسلط على رقاب أفراد أسرتها الصغيرة , يقول عبد الرحمن عن فقده لها : " وجدت أمى ملقاة على الأرض ومغطاة بملاءة بيضاء , أما الرجل فكان عاريا فى الركن " ([7])
ثم بفقد البراءة بمباضع " هنية " عشيقة والده وشريكته فى تجارة المخدرات التى اشترته من أمه ليحل محل أبيه عشيقا .
ثم بفقد " سوزان " حبه الأول , مرة برحيلها مع أسرتها من منزله, ومرة عندما رأها فى أحد المواخير يعرض زوجها الليبى جسدها لمن يدفع أكثر .
ثم بفقد الجدة التى كان وجودها ـ كما يقول ـ : " يبعث فى نفسى الاطمئنان ويجعلنى أتخيل أبى كصورة لم أرها أبدا" ([8])
ومن كثرة ما فقده " عبد الرحمن " أصبح الفقد غريزة فى نفسه . ففقد حتى الرغبة فى الانتقام لشرفه المهدر عندما رأى زوجه فى وضع غير خلقى مع محاميه الخاص , واكتفى بغلق باب الحجرة عليهما, والغوص فى هدوء فى أحد المقاعد .
وفقد الأمل فى مستقبل مشرق بنسيانه اسم وليده بذرة المستقبل . يقول فى حوار بينه وبين ضابط :
ـ وليدك ما اسمه ؟
بحثت فى ذاكرتى عن اسمه لم أجده
ـ قلت : لا أعرف .
ـ قال فى دهشة :
ـ ألا تعرف اسم وليدك ([9])
وتأخذ الهزيمة بعدا أخر هو بعد الوصول إلى الحقيقة فيفشل " عبد الرحمن " فى الوصول إلى حقيقة أبيه , الذى مات فى أحد السجون نتيجة فقد جميع السجلات , ويفشل فى العثور على أمه التى احترفت البغاء فى مرحلة من حياتها , والتسول فى مرحلة أخرى , ويفشل فى تذكر اسم وليده .
يقول عن بحثه عن أمه : " جبت كل حانات المدينة , سألت عن امرأة تبيع السجائر قالوا كثيرون يبيعون السجائر , ولم أعثر لها على أثر " ([10])

وأرى البحث عن الأب هنا بحث عن الجذور , وعن شرعية الوجود, والبحث عن الأم بحث عن الواقع ,عن الحاضر , عن الأمان , والبحث عن الابن بحث عن المستقبل , والفشل فى العثور على أحدهم يعنى موت " عبد الرحمن السيسى ", الذى بدا فى الراوية شجرة ضخمة بلا جذور .
;:
إن أهم ما يميز " البدء والأحراش " تقنيتها المتميزة , فمع أنها رواية قصيرة ـ عدد صفحاتها 81 صفحةـ تشهد على عصر , وتعرض صورة لمجتمع منهار , وفرد مهزوم , وقلق وجودى , وتبحث عن حقيقة , وهى أمور تحتاج إلى مئات الصفحات , أو تقنيات بنائية ذات طبيعة خاصة تحقق المعادلة الصعبة بين المضمون والحجم .
وقد اعتمد الكاتب فى عرض أحداث روايته على بعثرة المقاطع , متخذا من تيار الوعى وسيلة لعرضها وهو أسلوب يجعل المتلقى يعيش التجربة بكل حذافيرها , ويقضى على القراءة التسلسلية , فالمتلقى يغوص ويطفو , ويتقدم ليسبق الكاتب , ويتقهقر ليطل على الأحداث من بعد مناسب .

وقد اقتضى هذا من الكاتب التركيز على بعض التقنيات الخاصة مثل :

1ـ اكتناز الوصف :
فتكاد تخلو الرواية من الوصف , ويتميز وصف الشخصية بالاكتناز الشديد, فالروائى يمحو التدقيقات المتعلقة بخارج الذات لانشغاله بجوهرها المثقل بمعان الوحدة , وفقدان التواصل والأسى , والتآكل والحنين إلى زمن الحب الضائع .
يقول " عبد الرحمن السيسى" واصفا نفسه : " كنت نحيفا وعظام صدرى بارزة " ص65 , ويقول عن جدته " جدتى سمينة " ص 59 , وعن هنية : " مشرقة الوجه دائمة الحرص على نضارة وجهها " ص 60, وعن سوزان : " جميلة الوجه " ص 62 , وعن أمه : " كانت نحيفة " ص 65

وأرى اكتناز الوصف ـ الذى يميزه البعد عن التصوير البلاغى وقلة الصفات , وارتباط الوصف بالحواس الخمس ـ إثراء للنص الروائى فهو مشرك المتلقى فى العمل , فلو طلب من مائة شخص رسم صورة " لسوزان " فسيكون عندنا مائة صورة فكل متلق يراها كما يريد , لا كما يريد الروائى .

;:
2ـ خصوصية الحبكة :
فالرواية المقسمة إلى قسمين : الأول البدء , والثانى الأحراش , يظهر جزؤها الأول على شكل مقطع طويل مكون من أربع وعشرين بنية , داخل كل بنية وحدة عضوية , وإن كان بين البنى بون شاسع , فلا تؤدى البنية الأولى للثانية , ولا تؤدى الثانية للثالثة , بنى تشبه المشاهد داخل السيناريو , ليس لمشهد قوة ولا شرعية وجود بعيدا عن سابقه ولا لاحقة فهى ـ البنى ـ ترصد لحظات دالة مكثفة , رمزية فى حيـاة "عبد الرحمن السيسى " الشخصية الرئيسة والراوى فى ذات الوقت, وتكون مجتمعة صورة ما .
وهذه البنى هى :
ـ البنية الأولى : تشير إلى عبد الرحمن السيسى طفلا يذاكر .
ـ البنية الثانية: زيارة إلى أحد السجون البعيدة.
ـ البنية الثالثة : حديث عن الجدة المريضة والأم وهنية .
ـ البنية الرابعة : حديث عن الحاج إبراهيم وابنته سوزان.
ـ البنية الخامسة: حديث عن موت الأب ولقاء جسدى مع هنية .
ـ البنية السادسة : بيع الأم لجسدها بعدما نضب المال وسجن الأب.
ـ البنية السابعة: سوزان تفضى بحبها لعبد الرحمن .
ـ البنية الثامنة: حديث عن الحمروش .
ـ البنية التاسعة :مرض الأم
ـ البنية العاشرة :حديث مع هنية المجنونة بالشبق.
ـ البنية الحادية عشرة: موت الجدة .
ـ البنية الثانية عشرة: رحيل الحاج إبراهيم وسوزان وتوديع الجدة لهما

الملاحظ على هذه البنى التى سأكتفي بعرضها وجود وحدة عضوية داخل كل بنية, وانسيابها داخل المقطع دون ترتيب أو ترابط يصنع منها ككل وحدة عضوية ,فالجدة التى ماتت نراها تودع جارها في مشهد تال , وعبد الرحمن يعاشر هنية , ثم نراه طفلاً فى مشهد آخر, لكنها - ومع عدم ترابطها - شكلت باقتدار لوحة تهمس بمعنيين, أحدهما ظاهر، والآخر خفى, كما أنها أمدت المتلقى بمعنى مرتب مترابط , فمن هذه البنى يرسخ فى عقل المتلقى صورة :
 لطفل فقد أباه .
 كفلته الجدة والأم.
 نقلت الكفالة قسراً إلى هنية .
 رحيل حبه الأول .
 الانغماس فى عالم هنية القذر.
صورة بين مكوناتها علاقة سببية ما, وأجزم أن رسوخ هذه الصورة المرتبة فى ذهن المتلقى يعنى - دون ريب - أن بين مكوناتها على صفحات الرواية علاقة ترابطية غير ظاهرة ,علاقة تشكل وحدة عضوية , وهذا التفتيت يعكس لنا أغوار "عبد الرحمن " التى لم يغص الروائى فيها مكتفيا بالاعتماد على تقنية بنائية تكفيه عن ذلك الغوص الذى كان سيحتاج إلى صفحات وصفحات .
;:
3ـ شعرية اللغة :

من منجزات نظرية الرواية الحديثة كسر الوهم الشائع عن أن الفن القصصى الذى تتضح فيه سمة الشعرية هو القصة القصيرة فقط، من منطلق أنها أقرب فنون الحكى للقصيدة الغنائية فى إطارها المحدود، وفى اتجاهها الذاتى وإثبات الشعرية للرواية أيضاً, ونرى هذه الشعرية فى رواية " البدء والأحراش" , فقد اعتمد " سعيد بكر" على لغة شعرية تخدم روايته لكن عناصر شاعريتها ليست الصور الخيالية , ولا المحسنات البديعية , ولا الالتفات, ولا القيمة البصرية , ولا التشكيل الأسلوبى, بل هى شعرية القفزات الزمانية فالقفزات الزمانية تجبر المتلقى على العيش فى عالم غير واضح المعالم،عالم أسطورى يسبح فيه المرء نحو شواطىء غير مرئية ، لا يخرج منه إلا إذا استيقظ من عملية القراءة.
ونرى هذا القفز فى قول "عبد الرحمن السيسى " عـن وليده : " حبا على يديه وركبتيه وقلد نباح الكلاب ..كان يخاف الكلاب ولو رآها من النافذة يصرخ فى فزع ..أنا أيضا أكره نباح الكلاب ..تجمعوا فى الفناء الفسيح وراحوا ينبحون بأصوات مقبضة ..جدتى كانت ملقاة على حشية فى الركن ..تواصل عذاب الموت ..برغم أنها فارقت الحياة لم تكف عن النباح ..حملت وليدى وعاهدت نفسى على الترويح عنه هذا المساء " ([11])

إن الزمن فى الفقرة السابقة يقفز نحو الماضى بداية من اللفظة "جدتى" قفزة تجبر المتلقى على الخروج من العالم الذى رسمه لنفسه فى بداية الفقرة, للدخول فى عالم ضدى لا تربطه بالعالم الأول أية روابط شكلية أو شعورية، ثم الخروج للدخول فى عالم ثالث مخالف للعالمين السابقين.

وهو تنقل ، يقرب السرد الروائى من الشعر المحلق صاحبه فى أجواء الخيال الرافض الثبات والاستقرار ,وكأنه يستمد حياته من حركته. ولهذا القفزة "ضرورة فنية فى السياق الروائى، لأن الذات تعتمد فى ترابط السياق على الحـالات الشعورية والنفسية ، والحالات الشعورية لا ترتبط بالديمومة الزمنية من حيث سرد الأحداث الزمنية للذات المتموجة والسابحة فى غياهب الماضى ، وضياع الحاضر، وضبابية المستقبل "([12]) .

;:
4ـ الراوى وطريقة الحكى :
إن الراوى المشارك فى الأحداث المعتمد على ضمير المتكلم " أنا " نجح فى إذابة الفوارق الزمانية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا , كما أنه ألغى الإحساس بوجود مؤلف فقرب الشخصية من نفس المتلقى وألغى الكثير من الاستطرادات التى كان الكاتب سيضطر لها إن اعتمد على الراوى المشاهد " الهو " كما أن ندرة حضور الراوى باسمه ألغى الكثير من الاستطرادات أيضا ؛ فالأسماء خالقة لعلاقات تحتاج إلى سرد لا يتناسب مع حجم الرواية .
والطريقة التى اعتمد عليها الروائى فى الحكى هى طريقة التداعى الحر دون التقيد بزمن أو مواقف , وهى طريقة مناسبة لعرض مضمون ثرى فى مساحة سردية محددة .
إن البدء والأحراش رواية ـ رغم كثرة الأقلام التى تناولتها ـ تستحق الوقوف أمامها مرات ومرات من أكثر من زاوية , فهى علامة من علامات الفن الروائى العربى

:;








[1] ـ البدء والأحراش : ص 84 85
[2] ـ السابق : ص 106
[3] ـ السابق : ص 110
[4] ـ السابق : ص 112
[5] ـ السابق: ص 138
[6] ـ السابق : ص 60
[7] ـ السابق : ص 66
[8] ـ السابق : ص 60
[9] ـ السابق : ص 139
[10] ـ السابق : ص 111
[11] ـ السابق : ص 108
[12] ـ د. مراد عبد الرحمن مبارك : بناء الزمن فى الرواية المعاصرة ص105

12‏/06‏/2010

بسم الله الرحمن الرحيم رب العرش العظيم
لاإله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين

06‏/06‏/2010

يدعوكم الدكتور أبو المعاطي الرمادي رئيس النادي الأدبي بجامعة الملك سعود للمشاركة في فعاليات اللقاء الشعري الثاني , بعنوان " الأساتذة الشعراء " ,بعد نجاح اللقاء الأول الذي شارك فيه الشاعر الدكتور ناصر الرشيد , الشاعر الدكتور حافظ المغري , الشاعر الدكتور عماد حسيب , الشاعر الدكتور عماد الخطيب, الشاعرة الدكتورة مباركة بنت البراء .
الشعر ليس مجموعة خيالات
الشعر قنابل موقوتات
يفجرها الشاعر في الضجر
بسم الله الرحمن الرحيم
الشعر ليس حزمة خيالات الشعر قنابل موقوتات
يفجرها الشاعر في الضجر

21‏/03‏/2009

موت الوطن قراءة فى رواية " العباءة "

موت الوطن
فى رواية العباءة لـ.. إبراهيم خطاب

د/ أبو المعاطى خيرى الرمادى
فى روايته المكونة من اثنى عشر فصلا , هى على التوالى [ باب الوخز ـ باب الولاية ـ باب الخضر من السمك ـ باب ربما كان الحجر أبيض ـ مطايا باب الغفلة ـ قالت باب الغربان ـ فى ذكر باب ما ورد من الجمل ـ باب الستر ـ باب الكشف ـ باب الاختيار ـ باب الأعراف ـ باب ما قاله الخليفة ] نلحظ من الجملة الأولى تبرئة الراوى لنفسه مما سيرد فى الحكى , وتأكيده على أنه مجرد ناقل لأحداث دارت عنه , " عن ست الدار ابنة عبد الرحمن المشاط زوجة زرزور الفواز " ص7 , والحرص على تغليف الرواية بشىء من القدسية بالتركيز على كلمة " باب " فى عنوان كل فصل, تلك الكلمة التى تعتمد عليها كتب الفقه والعبادات اعتمادا أساسيا .

تحكى الرواية فى مستواها السطحى الظاهر ,عن العربى أيوب العربى الفلاح الأصيل الذى لا يعرف سوى أرضه, وفأسه , وجمله , وزوجه والأولاد , والترعة , والشمس , والمشنة , والناموس , المجبر على أن يكون وسطيا " لا يمين , أو يسار , ولكن وسط "ص7 مع كراهيته الشديدة للوسط فى كل شىء " فى الأرض ,فى القعدة العربى , فى المطالبة بالحق , بالدم . رد الحقوق "ص17, الذى عاش على هامش الحياة يعانى كثيرا ويرتاح قليلا , حتى فشت الأمراض فى جسده " تآكل الحالب الأيمن والحالب الأيسر وبينهم تضخم المثانة " ص24, انهار من الداخل, لكنه ظل محتفظا بهيئته التى عرف بها " أكلت الإبر والخيوط من جسدى وشربت ,فى كل نقطة من محيط الأرض والقرية والقرى المجاورة , ستجدين بقع دمائى المتناثرة ... إلا وجهى لم يرتكب إثم العمليات , لم أوافق , قال طبيب البندر: أنفك الأفطس محشو باللحمية الداخلية , تساعد على ضيق التنفس , فقلت : أنا العربى , قال : سحنتك السوداء بحاجة إلى كريم يحيلها بيضاء , قلت : استعمل قيالة الظهر بألف كريم , قال : جبهتك العريضة بحاجة لجراحة لهذا الكيس الدهنى البارز , أنا العربى ,فقال: كفيك المشققتين بهما ... قلت : ليس لى أنا " ص54

هذا الراضى بما قسم له , الرافض كل محاولات الأخر لمسخه , أبت الحياة إلا أن تقلب زورقه ، وهو الذى لم يتعلم كيف يركب الزورق مقلوبا , يصاب فى عرضه من أخيه الأصغر, ويرى عاره فى أعين أهل القرية " هؤلاء العالمون العارفون الفاضحون الناهشون لبواطن الأمور وما خفى منها " ص30 ,ويؤكده الطبيب صدفة دون سؤال " عـــــــــقم وراثى " ص27, بطيبته حاول الصمود ,وتناسى كلام النساء , والتسربل بالعفو , والتشبث بوعود السعادة للغافرين ,لكنه لم يقدر على المقاومة, تيبس الجسد " لا أوردة لا شرايين "ص 10, أعلن الطــبيب : إنها جلطة الموت " رفعت جلبابى المتسخ قليلا كثيرا وضعت اسطوانتها المعدنية فوق صدرى تمهلت , رفعتها , تناولت قبضة كفى تلصصت أذناها , تمهلت , نظرت فى عينى أمعنت النظر , بحلقت , تنهدت , سترت ما تبقى من عورتى المشاعة , مدت أصابعها مغمضة عينى الجاحظتين , حوقلت هامسة , شدت من طرف الملاءة فـــــوق وجهى "ص10

بعد موته يحكى لنا العربى أيوب عما حدث من أخيه الذى بصمه على " ورقة ورقتان ثلاث ورقات كم ورقة بصمت عليها لا أذكر , ربما قد بصمت على زوجتى والأولاد "ص13 , وعن وقائع غسله , وسرقة المغسل ومعاونوه أقمشة الكفن , يحكى عن حمله , وعديد النساء , عن النعش الطائر , عن العربى الذى أصبح من الأولياء , وأصبح له مقام , وعن حكايات الناس عن كراماته قبل موته " قصة الثعبان حينما التف حول رقبته وهو نائم , ثعبان أسود , طوله أكثر من مترين , هم العربى بالصحو , فك الثعبان من حلقات جسده الملتفة حول رقبة العربى , واستقام الثعبان على مؤخرته كأنه يداعب العربى , يهمس فى أذنه .. العربى يربت على جسد الثعبان اللدن وهو يبـــتسم ابتسامه ذات مغزى " ص52, عن سؤال الملكين فى القبر,عن الجنة ونعيمها , يحكى مازجا الواقعى بالفانتازى حكيا يتكشف به هدفه الأساسى , حكيا يبين المستوى التحتى الخفى الذى يريده الكاتب من وراء نصه .

فى باطن هذا المستوى الظاهر مستوى أخر أكثرعمقا يعرى فيه الكاتب واقعنا العربى , ويضخم مآسينا أمامنا, يشخص عللنا ويحدد الدواء , فالعربى أيوب العربى هو الوطن الصابر, المفتت بأيدى أبنائه " يسرق الشام من المغرب, والمغرب من الشرق , والشرق من الجنوب , ثم نبيع بعضنا للشمال , وكأنهم لا يعرفون أبعاضهم المتناثرة فيلملمون هذه الأبعاض وكأنها حفن من الغرباء ملقاة بطرق لا حدود لها" ص38,الوطن المنتهك تحت أعين الزعماء " التفت صوب الزعيم كيف له ـ الزعيم ـ أن يرى ويسمع دون أن يحرك ساكنا "ص41, المليء بالمفارقات المبكية , سرقة علنية , والسارقون المعرفون أحرار,وقانون لا يطبق إلا على الفقراء , مثل " صابرة " التى باع زوجها "عبد الحى التربى" القراريط الثلاثة , وسافر إلى العراق , وولديه إلى الكويت , بعد أن " دارت رحى الحرب عاد الثلاثة فى توابيت "ص94 لتنقطع بصابرة الأبية كل أسباب الدنيا , تجمع لها الزكاة , تشترى " جوالين بذنجان أسود , جوال خيار , خمسة أقفاص طماطم , دارت عجلة صابرة بالسوق دون انتظار لأحد " ص94,لكن الوطن الذى يقتل أبناءه يأبى لها الستر, يترك اللصوص منعمين بمال الوطن , ويحاكم صابرة لأنها لم ترفع إعلان بالتسعيرة , ولأنها لم تختم الموازين , ولأنها لا تحمل بطاقة صحية ! يحكم عليها بالسجن عام ونصف العام , لكنها كانت " أقوى من المحكمة , والضابط , أهل البلد , القانون , حين أخذها الخفراء عنوة من بيتها, كنا فى عشرة من شهر طوبة , ببرودته القارصة , ضحكت صابرة فى وجوههم جميعا , ثم استراحت , جثة هامدة , وابتسامة فرحى على وجهها الحزين " ص96, الوطن المثقل بالعلل النفسية المفرقة بين أهله , يمنع الأخ عن أخيه الخير , ولا يمنعه عن العدو , سليم الدرعـــــاوى " منع النسوة ملأ جرارهن غبن شهورا يملأن جرارهن من الترعة وأحيانا من الساقيــة " ص35 ( يركز الكاتب على أصل الاسم قائلا فى الهامش: اختلفت الروايات حول اسمه ـ الدرعاوى ـ إلا أن جدى أكد أن نسبه لمدينة الدرعية بالقطر السعودى ) ,العلل النفسية التى باعدت بين الإخوان , فاعتزلوا وعزلوا من أعاد لهم الكرامة ,الوطن المتخم بالإمعات المنساقون " أنا الذى سوف أكون بدعة لوحدى كل الخلق جوارى كلها بالمسيرة موافقة فرحانة كل الكون لابس لبس العيد أنا معهم أينما كانوا" ص85
هذا الوطن السقيم علاج جروحه ليس التوشح بأقنعة السابقين , والسير على نهجهم ؛ فلكل عصر متطلباته , ولكل زمان رجاله , علاجه الدواء الذى عالج به العربى أيوب جمله , حفنة من تراب الصحراء الدافىء فيلتئم الجرح بالجرح, علاجه العودة إليه .
*****
لقد بلغ الحس التراجيدى عند إبراهيم خطاب درجة عالية من الرهافة , تجسدت فى مشاهد فنية بالـــغة الجودة والإتقان , ساعدت على تعميق المأساة وإلباسها ثوبا إنسانيا رفيع المستوى , نجد ذلك فى اللغة المستخدمة المطعمة باقتباسات قرآنية وإنجيلية وشعرية ومقاطع روائية لآخرين , والتقنيات المتداخلة , [ قطع ،ولصق , وسوابق ولواحق,وفلاش باك ,ورمز (الرقم سبعة ) ومناجاة ,وتلاعب بالضمائر ( الهو / الأنا ) ] والعادات والطقوس والعقائد . فهو يطيل فى مشاهد العديد , ويتفنن فى إخراجها , ويتلذذ بذبح العربى أمامنا وببكائنا عليه , فبعد أن لبس العربى شخصية أخية ( بعد دخوله الجنة ) يسأل نفسه / الأخ " لماذا كانت زوجتى .. اسأل نفسك أولا .. أنا لم أقصر فى شىء من حقوقها .. كيف ذلك وأنت تعود مهدودا من الزرع والقلع وتلقيم الكيماوى .. هل هذا جزائى لأوفر لكم الـ.. ضف إلى هذا البلهارسيا التى أكلت وشربت من صحتك المعلولة .. هل أنت بديلا عنى .. لم أكن وحدى فقد كانت زوجتك لأكثر من .. " ص100

هذه الصورة القاتمة للوطن بجوار الإهداء " مازلت غائبا بين متاهات هذه العباءة ـ مثلكم ـ محاولا استكشاف بصيص من ضياء قادم .. ربما هو قادم "ص5 هى التى غلفت العنوان بغلالة رمزية , وفسرت ( العباءة ) بحياة الذل والمهانة والتدنى .

04‏/03‏/2009

معنى الشعر
فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب
ابن خلدون

من معانى لفظة شعر , العلم , والفطنة , والإدراك , والإشهار . يقول ابن منظور فى لسان العرب " أشعر الأمر , وأشعره به , وأعلمه إياه" (1) ويقول الزمخشرى فى أساس البلاغة " أشعرت أمر فلان جعلته مشهورا " (2)وقد سمى الشاعر شاعرا ؛ لأنه كان " يفطن لما لا يفطن له غيره من معانى الكلام وأوزانه" (3) أى يشعر بما لا يشعر به غيره من الناس .

وقد كـــــــان الشعر عند العرب فى العصر الجاهلى " ديوان علمهم , ومنتهى حــكمهم , به يأخذون , وإليه يصيرون " (4) فتعلموه , فأجادوه وجودوه , فأغناهم عن غيره من الفنون التى عرفتها الأمم الأخرى كالقصة والمسرحية , لكنهم لم يتعرضوا لتعريفه وتحديد خصائصه , وما يميزه عن غيره من الفنون التى كانت معروفة فى ذلك الوقت كالخطابة والحكم والأمثال

لكن عدم وجود تعريف ـ مكتوب ـ للشعر فى العصر الجاهلى لا يعنى عدم إدراك العرب لماهية ومتطلبات هذا الفن وخصائصه ,فلا يمكن أن يكون حكم أم جندب * زوج امرىء القيس الذى فضلت فيه قول علقمة بن عبدة التميمى فى وصف فرسه :
فأدراكهن ثانيا مـــن عنانه يمر كمر الرائــح المتجــــلب
على قول زوجها : فللسوط ألهوب , وللساق درة وللزجر منه وقع أهوج متعب
حكم صادر عن جهل بمفهوم الشعر , فهو يدل على أن أم جندب كانت على وعى ساد وانتشر حول تكنيك الشعر , أو على وجه أخص بالانسجام الصوتى , والترسل اللفظى فى الشعر حتى دون معرفى المصطلحات .كما أن أوصاف الشعر " الوشى ـ البرود ـ الحلى " وألقاب الشعراء " المهلهل " , وتسمية القصائد بـ " سمط ـ يتيمة ـ حولية " دليل قاطع على أن الشعر كانت له مفاهيم وتعريفات فى أذهان الجاهليين . وهى معايير " مستمدة من العرف اللغوى السائد والقيم الاجتماعية والأدبية الموروثة بالإضافة إلى الذوق العام " ( 5)


*****


يكاد يجمع الباحثون ـ وأشك فى اجماعهم ـ على أن أول تعريف للشعر ظهرفى القرن الثالث الهجرى , فى مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحى 222هـ الذى عد الشعر " صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر العلوم والصناعات " (6)
والقول بأن الشعر صناعة ينفى الزعم القائل بأن العربى يصدر شعره عن فطرة وعفوية دون مكابدة ,أومجاهدة , وإعمال فكر , كما ينفى الانطباعية عن النقد فى هذا العصر , ويؤكد أن النقاد كانوا يستعينون بمعايير موضوعية ومقايس فنية .

حقا لم يقدم ابن سلام فى هذا التعريف تحديدا منضبطا يوضح خصائص الشعر الذاتية , ولم يضع تعريفا منضبطا يتناول ماهية الفن الشعرى , لكننا ندرك من خلال تقسيمه الشعراء إلى طبقات , ومن الأسس التى اعتمد عليها فى هذا التقسيم , أنه يرى الشعر فنا لغويا يقوم على تصوير المعنى . وهذا يبدو من وضعه امرؤ القيس , النابغة الذبيانى فى الطبقة الأولى من الشعراء .

وقد طور الجاحظ 255هـ تعريف ابن سلام عندما عد الشعر " صياغة وضرب من النسج ومن التصوير " (7) فهويركز على الجانب الفنى من تأليف الكلام وصياغته بطريقة مميزة ,كما نبه للصلة الوطيدة بين الشعر والفنون الأخرى التى تتجانس معه فى الطبيعة التخيلية , وتتفق وإياه فى الجمال الشكلى وإحداثمتعة فنية فى نفس المتلقى , ولعل الجاحظ متأثر فى ذلك بالفكر والأدب اليونانى الذى اعتبر الشعر كالرسم .

إن محاولاتى ابن سلام والجاحظ قد مهدتا الطريق لظهور تعريف صريح للشعر فى القرن الرابع الهجرى فى كتاب الزينة لأبى حاتم الرازى 322هـ الذى عد الشعر " الكلم الموزون على روى واحد , المقوم على حذو واحد , فقد حذى اليت بالبيت حذو النعل بالنعل ,وإنما سموه شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأشياء " ( 8)

والربط بين الشعروالفطنة يرد الشعر إلى نبعه الأصلى الذى خرج منه وهو الشعور , فالفطنة يراد بها " الحشد الشعورى والقدرة الفائقة على التنبيه , وإدراك العلاقات الخفية بين الأشياء والشاعر هو الإنسان الفطن الذى يتنبه إلى ما بين الشياء من صلات قد تخفى على الرجل العادى" (9)

كما مهدت الطريق لابن وهب 322هـ معاصر الرازى الذى حدد من هو الشاعر فى قوله " الشاعر من شعر بشعر فهو شاعر , والمصدر الشعر ولا يستحق الشاعر هذا الاسم حتى يأتى بما لا يشعر به غيره , وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر لما ذكرنا فكل ما كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى " (10)
فهو يربط بين الوجدان والشعر, ويجعله عنصرا أساسيا من عناصر البناء الشعرى , وفى قوله ـ بقصد أو بدون قصد ـ إشارة إلى أهمية المعنى فى البناء الشعرى ؛ فالوجدان لا يظهر إلا فى شعر ذى معنى . فلا يمكن أن نشعر بمشاعر الشاعر فى قول
عجب عجب عجب عجب بقرة تمشى ولــــــها ذنب
أو فى قول : كأننا والماء من حـــــــولنا قوم جلوس من حولهم ماء

وأعد تعريف الشريف الجرجانى إضافة هامة لتعريف ابن وهب , فهو يعد" الشعر كلام مقفى موزون على سبيل القصد " (11) والقيد الأخير يخرج كل موزون لا يقصد به شعر كقوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر) وقولــــــــــه تعالى ( فذلكن الذى لمتننى فيه ) وقول النبى (ص) : أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ,فكل موزون مقفى لا يكون شعرا إلا إذا قصد به الشعر .
فهذا التعريف يدل على أن الشعر قد أصبح له معيار وقوانين موضوعية , وتقاليد فنية , ولم يعد ذلك الفن العفوى الذى يمكن نذوقه ولا يمكن وصفه . لذا فإننى أرى جل التريفات التى تلت تعريف ابن وهب والجرجانى لم تضف جديدا لمعنى الشعر . فتعريف قدامه ابن جعفر" قول موزون مقفى يدل على معنى" (12) الذى الذى يعتبره الباحثون التعريف الأول الأكثر دقة وشمولية * لا يعد جامعا مانعا فهو يسوى بين الشعر والنثر العلمى " فقد تصاغ الفكرة أو النظرية العلمية , صياغة نظمية وتدل بذلك على معنى , لكنها لا تعد شعرا حسب المفهوم الحقيقى لكلمة شعر " (13) المرتبطة بالشعوروالقصد .

وإن كان تعريف القاضى الجرجانى المتوفى 336هـ " إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والروية والذكاء , ثم تكون الدراسة مادة له وقوة , لكل واحد من أسبابه " (14) إضافة حقيقية لتحديد معنى الشعر بما فيه من إدراك واع لعناصر التجربة الشعرية , وفهم للعوامل التى تسهم فى إبداعه , والوسائل التى تؤدى لنضجه فنيا ,ومن ثم الفصل بينه وبين غيره من العلوم الأخرى فإننى أرى تعريف أبى العلاء المعرى 499هـ " الشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحسن " (15) أول تعريف يضيف للسابقين ؛ فهذا التعريف " على ما فيه من إيجاز يمس قلب الشعر وروحه ويربط بين تجربة الشاعر , وتجربة المتلقى للشعر , بينما لا نحس بأى أثر لذلك فى تعريف قدامة " (16) أو فى تعريفات الذين تلوه., ولو وضعنا بجواره تعريف ابن سينا " الشعركلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة " (17) بما فيه من إشارة لدور الخيال فى الإبداع الشعرى , لكان لنا تعريف للشعرـ التقليدى ـ جامع مانع . يمكن صياغته فى أن الشعر كلام مخيل موزون مقفى ذو معنى مقصود لذلته يصور العاطفة .


*****


لقد ظل هذا المفهوم سائدا من القرن الخامس الهجرى يردده النقاد مع شىء من التصرف حتى بداية العصر الحديث ـ عصر المدارس الأدبية ـ فهو مفهوم الكلاسيكيين * والرومانسيين الذين جعلوه تعبيرا عن النفس الإنسانية وما يتصل بها من التأملات الفكرية والنظرات الفلسفية * و تحرروا من قوانين البحور الخليلية . وقد ظل هذا المفهوم هو السائد حتى بدايات النصف الثانى من القرن العشرين ,حتى ظهرت المدرسة الواقعية الثائرةعلى بحور الخليل , وموسيقى القافية , وعلى ربط الشعر بما يدور داخل النفس الإنسانية *

وفى الربع الأخير من القرن العشرين قويت أمواج التجديد الممتزجة بالتغريب فظهرت وحدة التفعيلة , وبدأ العروض الخليلى فى الانزواء شيئا فشيئا , وبدأت الملامح المميزة للشعر العربى عن النثر فى الضمور , ووازى ذلك محاولات الحداثيين لتمييع مفهوم الشعر , ومحو المعايير الضابطة له , فجعلوا الشعر رؤية , وقالوا إنه ليس نوعا أدبيا بلهو حالة فكرية وروحية تشمل حين تتسع التعبير عن طرائق الحياة , وغيرذلك من الأقاويل الزئبقية التى لم يستطع أصحابها أنفسهم الإمساك بها .

وقد كان من نتائج هذا الهوس الحداثى مولود غير شرعى ,هو قصيدة النثر التى انتهكت حرمة الشعر, وقوضت مفهومه, فى وقت لم يعرف لها أصحابها مفهوما ؛ فمتطاها الكثير من الفاشلين فى إيجادة قواعد العربية , وعروض الخليل ولوبشكله التفعيلى .



الهوامش :

1ـ ابن منظور : لسان العرب
2ـ الزمخشرى : أساس البلاغة
3ـ أبوحاتم الرازى : كتاب الزينة صـ83
4ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراءص 22
*روى أن امرىء القيس كان جالسا بخبائه وعنده زوجه أم جندب , فجاءه علقمة بن عبدة التميمى , وتذاكرا أمر الشعر , وادعى كل منهما لنفسه ما ليس عند صاحبه , فاتفقا على أن ينشد كل منها وتحكم بينهما أم جندب فقال امرؤ القيس قصيدته التى مطلعها : خليلى مرا بى على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب .ووصف فيها فرسه . وعارضه علقمة بقصيدته التى مطلعها : ذهبت من الهجران فى غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب . ووصف فيه فرسه . فلما فرغا قضت أم جندب علعلقمة على امرىء القيس, فسألها : بم فضلته على ؟ فقالت فرس ابن عبدة أجود من فرسك ، فأنت زجرت , وحركت ساقيك , وضربت بسوطك , أما علقمة فأدرك بفرسه غرضه ثانيا من عنانه , لم يضربه بسوط , ولم يجهده , فلم يرتض امرؤ القيس حكمها واتهمها فيه وطلقها
5ـ د. أحمد طاهر حسين : روافد النقد الأدبى عند العرب مجلة فصول ديسمبر 1985 صـ 13
6ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراء , صـ 7
7ـ الجاحظ : الحيوان ج 2 صـ132
8ـ الرازى : كتاب الزينة صـ83
9ـ د. عبد الفتاح عثمان : نظرية الشعر فى النقد العربى القديم صـ 20, 21
10ـ ابن وهب : البرهان صـ 120
11ـ الجرجانى : النعريفات ج 1 صـ 167
12ـ قدامة بن جعفر : نقد الشعر صـ13
من الذين تبنواهذا الرأى د. جابرعصفورفى كتابه مفهوم الشعرو د. شكرى عياد فى كتابه أسوطاليس ود. عثمان موافى فى كتابه من قضايا الشعر والنثر ,دعبد الفتاح عثمان فى كتابه نظرية الشعر
13ـ د. عثمان موافى : من قضايا الشعروالنثر صـ 13
14ـ القاضى الجرجانى: الوساطة صـ 15
15ـ أبو العلاء المعرى : رسالة الغفران صـ 242
16ـ د. عثمان موافى : من قضايا النثر , صـ 14
17ـ عبد الرحمن بدوى : فن الشعر صـ161
* يقول البارودى الشعر لمعة خيالية يتألق وميضها فى سماوات الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب , فيفيض بلألأته نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان , فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك , ويهتدى بدليلها السالك " ديوان البارودى "
* رأى الديوانيين الذى لم يرفضه بقية الرومانسيين
* نادى الواقعييون بضرورة تعبير الشعر عن هموم الناس ومشكلاتهم وأمالهم وتطلعاتهم وحيرة إنسان القرن العشرين بين التطلع للكسب المادى الزائل والتمسكب القيم الخالدة .