ابن خلدون
من معانى لفظة شعر , العلم , والفطنة , والإدراك , والإشهار . يقول ابن منظور فى لسان العرب " أشعر الأمر , وأشعره به , وأعلمه إياه" (1) ويقول الزمخشرى فى أساس البلاغة " أشعرت أمر فلان جعلته مشهورا " (2)وقد سمى الشاعر شاعرا ؛ لأنه كان " يفطن لما لا يفطن له غيره من معانى الكلام وأوزانه" (3) أى يشعر بما لا يشعر به غيره من الناس .
وقد كـــــــان الشعر عند العرب فى العصر الجاهلى " ديوان علمهم , ومنتهى حــكمهم , به يأخذون , وإليه يصيرون " (4) فتعلموه , فأجادوه وجودوه , فأغناهم عن غيره من الفنون التى عرفتها الأمم الأخرى كالقصة والمسرحية , لكنهم لم يتعرضوا لتعريفه وتحديد خصائصه , وما يميزه عن غيره من الفنون التى كانت معروفة فى ذلك الوقت كالخطابة والحكم والأمثال
لكن عدم وجود تعريف ـ مكتوب ـ للشعر فى العصر الجاهلى لا يعنى عدم إدراك العرب لماهية ومتطلبات هذا الفن وخصائصه ,فلا يمكن أن يكون حكم أم جندب * زوج امرىء القيس الذى فضلت فيه قول علقمة بن عبدة التميمى فى وصف فرسه :
فأدراكهن ثانيا مـــن عنانه يمر كمر الرائــح المتجــــلب
على قول زوجها : فللسوط ألهوب , وللساق درة وللزجر منه وقع أهوج متعب
حكم صادر عن جهل بمفهوم الشعر , فهو يدل على أن أم جندب كانت على وعى ساد وانتشر حول تكنيك الشعر , أو على وجه أخص بالانسجام الصوتى , والترسل اللفظى فى الشعر حتى دون معرفى المصطلحات .كما أن أوصاف الشعر " الوشى ـ البرود ـ الحلى " وألقاب الشعراء " المهلهل " , وتسمية القصائد بـ " سمط ـ يتيمة ـ حولية " دليل قاطع على أن الشعر كانت له مفاهيم وتعريفات فى أذهان الجاهليين . وهى معايير " مستمدة من العرف اللغوى السائد والقيم الاجتماعية والأدبية الموروثة بالإضافة إلى الذوق العام " ( 5)
*****
يكاد يجمع الباحثون ـ وأشك فى اجماعهم ـ على أن أول تعريف للشعر ظهرفى القرن الثالث الهجرى , فى مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحى 222هـ الذى عد الشعر " صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر العلوم والصناعات " (6)
والقول بأن الشعر صناعة ينفى الزعم القائل بأن العربى يصدر شعره عن فطرة وعفوية دون مكابدة ,أومجاهدة , وإعمال فكر , كما ينفى الانطباعية عن النقد فى هذا العصر , ويؤكد أن النقاد كانوا يستعينون بمعايير موضوعية ومقايس فنية .
حقا لم يقدم ابن سلام فى هذا التعريف تحديدا منضبطا يوضح خصائص الشعر الذاتية , ولم يضع تعريفا منضبطا يتناول ماهية الفن الشعرى , لكننا ندرك من خلال تقسيمه الشعراء إلى طبقات , ومن الأسس التى اعتمد عليها فى هذا التقسيم , أنه يرى الشعر فنا لغويا يقوم على تصوير المعنى . وهذا يبدو من وضعه امرؤ القيس , النابغة الذبيانى فى الطبقة الأولى من الشعراء .
وقد طور الجاحظ 255هـ تعريف ابن سلام عندما عد الشعر " صياغة وضرب من النسج ومن التصوير " (7) فهويركز على الجانب الفنى من تأليف الكلام وصياغته بطريقة مميزة ,كما نبه للصلة الوطيدة بين الشعر والفنون الأخرى التى تتجانس معه فى الطبيعة التخيلية , وتتفق وإياه فى الجمال الشكلى وإحداثمتعة فنية فى نفس المتلقى , ولعل الجاحظ متأثر فى ذلك بالفكر والأدب اليونانى الذى اعتبر الشعر كالرسم .
إن محاولاتى ابن سلام والجاحظ قد مهدتا الطريق لظهور تعريف صريح للشعر فى القرن الرابع الهجرى فى كتاب الزينة لأبى حاتم الرازى 322هـ الذى عد الشعر " الكلم الموزون على روى واحد , المقوم على حذو واحد , فقد حذى اليت بالبيت حذو النعل بالنعل ,وإنما سموه شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأشياء " ( 8)
والربط بين الشعروالفطنة يرد الشعر إلى نبعه الأصلى الذى خرج منه وهو الشعور , فالفطنة يراد بها " الحشد الشعورى والقدرة الفائقة على التنبيه , وإدراك العلاقات الخفية بين الأشياء والشاعر هو الإنسان الفطن الذى يتنبه إلى ما بين الشياء من صلات قد تخفى على الرجل العادى" (9)
كما مهدت الطريق لابن وهب 322هـ معاصر الرازى الذى حدد من هو الشاعر فى قوله " الشاعر من شعر بشعر فهو شاعر , والمصدر الشعر ولا يستحق الشاعر هذا الاسم حتى يأتى بما لا يشعر به غيره , وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر لما ذكرنا فكل ما كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى " (10)
فهو يربط بين الوجدان والشعر, ويجعله عنصرا أساسيا من عناصر البناء الشعرى , وفى قوله ـ بقصد أو بدون قصد ـ إشارة إلى أهمية المعنى فى البناء الشعرى ؛ فالوجدان لا يظهر إلا فى شعر ذى معنى . فلا يمكن أن نشعر بمشاعر الشاعر فى قول
عجب عجب عجب عجب بقرة تمشى ولــــــها ذنب
أو فى قول : كأننا والماء من حـــــــولنا قوم جلوس من حولهم ماء
وأعد تعريف الشريف الجرجانى إضافة هامة لتعريف ابن وهب , فهو يعد" الشعر كلام مقفى موزون على سبيل القصد " (11) والقيد الأخير يخرج كل موزون لا يقصد به شعر كقوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر) وقولــــــــــه تعالى ( فذلكن الذى لمتننى فيه ) وقول النبى (ص) : أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ,فكل موزون مقفى لا يكون شعرا إلا إذا قصد به الشعر .
فهذا التعريف يدل على أن الشعر قد أصبح له معيار وقوانين موضوعية , وتقاليد فنية , ولم يعد ذلك الفن العفوى الذى يمكن نذوقه ولا يمكن وصفه . لذا فإننى أرى جل التريفات التى تلت تعريف ابن وهب والجرجانى لم تضف جديدا لمعنى الشعر . فتعريف قدامه ابن جعفر" قول موزون مقفى يدل على معنى" (12) الذى الذى يعتبره الباحثون التعريف الأول الأكثر دقة وشمولية * لا يعد جامعا مانعا فهو يسوى بين الشعر والنثر العلمى " فقد تصاغ الفكرة أو النظرية العلمية , صياغة نظمية وتدل بذلك على معنى , لكنها لا تعد شعرا حسب المفهوم الحقيقى لكلمة شعر " (13) المرتبطة بالشعوروالقصد .
وإن كان تعريف القاضى الجرجانى المتوفى 336هـ " إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والروية والذكاء , ثم تكون الدراسة مادة له وقوة , لكل واحد من أسبابه " (14) إضافة حقيقية لتحديد معنى الشعر بما فيه من إدراك واع لعناصر التجربة الشعرية , وفهم للعوامل التى تسهم فى إبداعه , والوسائل التى تؤدى لنضجه فنيا ,ومن ثم الفصل بينه وبين غيره من العلوم الأخرى فإننى أرى تعريف أبى العلاء المعرى 499هـ " الشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحسن " (15) أول تعريف يضيف للسابقين ؛ فهذا التعريف " على ما فيه من إيجاز يمس قلب الشعر وروحه ويربط بين تجربة الشاعر , وتجربة المتلقى للشعر , بينما لا نحس بأى أثر لذلك فى تعريف قدامة " (16) أو فى تعريفات الذين تلوه., ولو وضعنا بجواره تعريف ابن سينا " الشعركلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة " (17) بما فيه من إشارة لدور الخيال فى الإبداع الشعرى , لكان لنا تعريف للشعرـ التقليدى ـ جامع مانع . يمكن صياغته فى أن الشعر كلام مخيل موزون مقفى ذو معنى مقصود لذلته يصور العاطفة .
*****
لقد ظل هذا المفهوم سائدا من القرن الخامس الهجرى يردده النقاد مع شىء من التصرف حتى بداية العصر الحديث ـ عصر المدارس الأدبية ـ فهو مفهوم الكلاسيكيين * والرومانسيين الذين جعلوه تعبيرا عن النفس الإنسانية وما يتصل بها من التأملات الفكرية والنظرات الفلسفية * و تحرروا من قوانين البحور الخليلية . وقد ظل هذا المفهوم هو السائد حتى بدايات النصف الثانى من القرن العشرين ,حتى ظهرت المدرسة الواقعية الثائرةعلى بحور الخليل , وموسيقى القافية , وعلى ربط الشعر بما يدور داخل النفس الإنسانية *
وفى الربع الأخير من القرن العشرين قويت أمواج التجديد الممتزجة بالتغريب فظهرت وحدة التفعيلة , وبدأ العروض الخليلى فى الانزواء شيئا فشيئا , وبدأت الملامح المميزة للشعر العربى عن النثر فى الضمور , ووازى ذلك محاولات الحداثيين لتمييع مفهوم الشعر , ومحو المعايير الضابطة له , فجعلوا الشعر رؤية , وقالوا إنه ليس نوعا أدبيا بلهو حالة فكرية وروحية تشمل حين تتسع التعبير عن طرائق الحياة , وغيرذلك من الأقاويل الزئبقية التى لم يستطع أصحابها أنفسهم الإمساك بها .
وقد كان من نتائج هذا الهوس الحداثى مولود غير شرعى ,هو قصيدة النثر التى انتهكت حرمة الشعر, وقوضت مفهومه, فى وقت لم يعرف لها أصحابها مفهوما ؛ فمتطاها الكثير من الفاشلين فى إيجادة قواعد العربية , وعروض الخليل ولوبشكله التفعيلى .
الهوامش :
1ـ ابن منظور : لسان العرب
2ـ الزمخشرى : أساس البلاغة
3ـ أبوحاتم الرازى : كتاب الزينة صـ83
4ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراءص 22
*روى أن امرىء القيس كان جالسا بخبائه وعنده زوجه أم جندب , فجاءه علقمة بن عبدة التميمى , وتذاكرا أمر الشعر , وادعى كل منهما لنفسه ما ليس عند صاحبه , فاتفقا على أن ينشد كل منها وتحكم بينهما أم جندب فقال امرؤ القيس قصيدته التى مطلعها : خليلى مرا بى على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب .ووصف فيها فرسه . وعارضه علقمة بقصيدته التى مطلعها : ذهبت من الهجران فى غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب . ووصف فيه فرسه . فلما فرغا قضت أم جندب علعلقمة على امرىء القيس, فسألها : بم فضلته على ؟ فقالت فرس ابن عبدة أجود من فرسك ، فأنت زجرت , وحركت ساقيك , وضربت بسوطك , أما علقمة فأدرك بفرسه غرضه ثانيا من عنانه , لم يضربه بسوط , ولم يجهده , فلم يرتض امرؤ القيس حكمها واتهمها فيه وطلقها
5ـ د. أحمد طاهر حسين : روافد النقد الأدبى عند العرب مجلة فصول ديسمبر 1985 صـ 13
6ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراء , صـ 7
7ـ الجاحظ : الحيوان ج 2 صـ132
8ـ الرازى : كتاب الزينة صـ83
9ـ د. عبد الفتاح عثمان : نظرية الشعر فى النقد العربى القديم صـ 20, 21
10ـ ابن وهب : البرهان صـ 120
11ـ الجرجانى : النعريفات ج 1 صـ 167
12ـ قدامة بن جعفر : نقد الشعر صـ13
من الذين تبنواهذا الرأى د. جابرعصفورفى كتابه مفهوم الشعرو د. شكرى عياد فى كتابه أسوطاليس ود. عثمان موافى فى كتابه من قضايا الشعر والنثر ,دعبد الفتاح عثمان فى كتابه نظرية الشعر
13ـ د. عثمان موافى : من قضايا الشعروالنثر صـ 13
14ـ القاضى الجرجانى: الوساطة صـ 15
15ـ أبو العلاء المعرى : رسالة الغفران صـ 242
16ـ د. عثمان موافى : من قضايا النثر , صـ 14
17ـ عبد الرحمن بدوى : فن الشعر صـ161
* يقول البارودى الشعر لمعة خيالية يتألق وميضها فى سماوات الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب , فيفيض بلألأته نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان , فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك , ويهتدى بدليلها السالك " ديوان البارودى "
* رأى الديوانيين الذى لم يرفضه بقية الرومانسيين
* نادى الواقعييون بضرورة تعبير الشعر عن هموم الناس ومشكلاتهم وأمالهم وتطلعاتهم وحيرة إنسان القرن العشرين بين التطلع للكسب المادى الزائل والتمسكب القيم الخالدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق