20‏/06‏/2010


البدء والأحراش
رحابة المضمون وخصوصية البناء
د. أبو المعاطي خيري الرمادي

ترسم رواية البدء والأحراش لسعيد بكر صورة لمجتمع متهرىء , وفرد مهزوم بالفقد وبفشل الوصول إلى الحقيقة , فنرى فيها المجتمع ماخورا كبيرا تمارس فيه الرذيلة بلا خوف , وبلا حرج , وبلا داع .
نرى " هنية " تتفنن فى نسج خيوط الرذيلة لتصنع منها ثوبا لا يبلى , فبعد القبض على السيسى عشيقها وشركها فى تجارة المخدرات ,نصبت فخاخها لابنه الصبى عبد الرحمن ليحل محل أبيه , تظاهرت بكل القيم النبيلة حتى قادت أم عبد الرحمن ابنها إليها .
يقول "عبد الرحمن " الشخصية الرئيسة وراوى الأحداث فى ذات الوقت: " فى الثانية عشرة قادتنى أمى إليها .. أول مرة أراها .. استبقتنى فى الحجرة وقذفت فى فمى بقطع الحلوى .. غمرنى اطمئنان فمضغت الحلوى فى تلذذ .. قالت لن أجهدك , وسوف تواصل دراستك .. فى وقت من الليل تسحبت خلفى غاص ظهرى فى بطنها , وأيقنت أنها تحاول أن تجردنى من ثيابى ([1])
وعبد الرحمن نفسه يعتدى على زميلته فى كلية التجارة فى أثناء رحلة إلى مدينة المنصورة . يقول عن فعلته : " حينما وقف القطار انتظرت أن تجتازنى .. احتككت بها .. حدجتنى ولوت عنقها .. أصررت أن أنالها مهما كلفنى الأمر .. فى خلسة وفى ظلام دار ابن لقمان جذبتها إلى صدرى .. تجمعوا.. وانهالوا فوقى تأنيبا " ([2])
ولم يكتف بهذا , بل وأمام مجلس التأديب الذى عقد له حاول الاعتداء عليها "كانت شاهيناز بين يدى تصرخ .. ألثم جبينها فى لهفة مسعورة .. حملونى وألقوا بى فى الخارج .([3])
والليبى يمتهن القوادة , ويحميها بسياج الزواج , فيتزوج من " سوزان " التى عض الفقر أسرتها، ويعرض جســدها على من يدفع أكثر .
و" أميرة " زوج عبد الرحمن تخونه مع محاميه " صبحى" , وتتهم زوجها الذى رآهما فى وضع غير خلقى ـ فى صفاقة غريبة ـ بالتجسس عليها .
يقول " عبد الرحمن " : " وجدت أميرة فى أحضان صبحى .. أغلقت الباب فى قهر .. غصت فى أحد فوتيهات الصالة .. ثم نمت .. فى الصباح قلت لأميرة
ـ رأيتكما معا
قالت :
ـ أعرف أنك تتجسس على قلت :
ـ لم أتجسس , لكنى رأيتكما صدفة
قالت فى ثبات
ـ وماذا تريد أن تصنع ([4])

والفرد داخل هذا المجتمع مهزوم على طول الخط , وأبعاد الهزيمة متعددة ,لكن بعد الفقد هو أهمها . يقول عبد الرحمن السيسى ملخصا إحساسه بالفقد " عبد الرحمن السيسى هو أنا : مات أبى ولم نعرف مثواه أمى تتسول فى الطرقات .. ولى أنف أفطس مثل أنفها .. هل تصدق ؟ .. أحببت سوزان , لكنها تزوجت بقواد . أميرة تزوجت صبحى .. أميرة هذه زوجتى .. لا تضحك .. وأيضا مات الحمروش , وألقوه فى الماء والحقيقة كان البحر ساكنـا الآن لم يبق لى سوى وليدى " ([5])
تبدأ هزيمة " عبد الرحمن" بافتقاد الأب الذى مات فى أحد السجون , افتقادا بدأ قبل موته . يقول عن أبيه : ما عدت أومن بأبى كوجود رأيته كثيرا معلقا على الحائط ثم لم أعد أعبأ به " ([6])
ثم بافتقاد الأم التى استولى على جسدها رجل أكرش مستغلا سيف الحاجة المسلط على رقاب أفراد أسرتها الصغيرة , يقول عبد الرحمن عن فقده لها : " وجدت أمى ملقاة على الأرض ومغطاة بملاءة بيضاء , أما الرجل فكان عاريا فى الركن " ([7])
ثم بفقد البراءة بمباضع " هنية " عشيقة والده وشريكته فى تجارة المخدرات التى اشترته من أمه ليحل محل أبيه عشيقا .
ثم بفقد " سوزان " حبه الأول , مرة برحيلها مع أسرتها من منزله, ومرة عندما رأها فى أحد المواخير يعرض زوجها الليبى جسدها لمن يدفع أكثر .
ثم بفقد الجدة التى كان وجودها ـ كما يقول ـ : " يبعث فى نفسى الاطمئنان ويجعلنى أتخيل أبى كصورة لم أرها أبدا" ([8])
ومن كثرة ما فقده " عبد الرحمن " أصبح الفقد غريزة فى نفسه . ففقد حتى الرغبة فى الانتقام لشرفه المهدر عندما رأى زوجه فى وضع غير خلقى مع محاميه الخاص , واكتفى بغلق باب الحجرة عليهما, والغوص فى هدوء فى أحد المقاعد .
وفقد الأمل فى مستقبل مشرق بنسيانه اسم وليده بذرة المستقبل . يقول فى حوار بينه وبين ضابط :
ـ وليدك ما اسمه ؟
بحثت فى ذاكرتى عن اسمه لم أجده
ـ قلت : لا أعرف .
ـ قال فى دهشة :
ـ ألا تعرف اسم وليدك ([9])
وتأخذ الهزيمة بعدا أخر هو بعد الوصول إلى الحقيقة فيفشل " عبد الرحمن " فى الوصول إلى حقيقة أبيه , الذى مات فى أحد السجون نتيجة فقد جميع السجلات , ويفشل فى العثور على أمه التى احترفت البغاء فى مرحلة من حياتها , والتسول فى مرحلة أخرى , ويفشل فى تذكر اسم وليده .
يقول عن بحثه عن أمه : " جبت كل حانات المدينة , سألت عن امرأة تبيع السجائر قالوا كثيرون يبيعون السجائر , ولم أعثر لها على أثر " ([10])

وأرى البحث عن الأب هنا بحث عن الجذور , وعن شرعية الوجود, والبحث عن الأم بحث عن الواقع ,عن الحاضر , عن الأمان , والبحث عن الابن بحث عن المستقبل , والفشل فى العثور على أحدهم يعنى موت " عبد الرحمن السيسى ", الذى بدا فى الراوية شجرة ضخمة بلا جذور .
;:
إن أهم ما يميز " البدء والأحراش " تقنيتها المتميزة , فمع أنها رواية قصيرة ـ عدد صفحاتها 81 صفحةـ تشهد على عصر , وتعرض صورة لمجتمع منهار , وفرد مهزوم , وقلق وجودى , وتبحث عن حقيقة , وهى أمور تحتاج إلى مئات الصفحات , أو تقنيات بنائية ذات طبيعة خاصة تحقق المعادلة الصعبة بين المضمون والحجم .
وقد اعتمد الكاتب فى عرض أحداث روايته على بعثرة المقاطع , متخذا من تيار الوعى وسيلة لعرضها وهو أسلوب يجعل المتلقى يعيش التجربة بكل حذافيرها , ويقضى على القراءة التسلسلية , فالمتلقى يغوص ويطفو , ويتقدم ليسبق الكاتب , ويتقهقر ليطل على الأحداث من بعد مناسب .

وقد اقتضى هذا من الكاتب التركيز على بعض التقنيات الخاصة مثل :

1ـ اكتناز الوصف :
فتكاد تخلو الرواية من الوصف , ويتميز وصف الشخصية بالاكتناز الشديد, فالروائى يمحو التدقيقات المتعلقة بخارج الذات لانشغاله بجوهرها المثقل بمعان الوحدة , وفقدان التواصل والأسى , والتآكل والحنين إلى زمن الحب الضائع .
يقول " عبد الرحمن السيسى" واصفا نفسه : " كنت نحيفا وعظام صدرى بارزة " ص65 , ويقول عن جدته " جدتى سمينة " ص 59 , وعن هنية : " مشرقة الوجه دائمة الحرص على نضارة وجهها " ص 60, وعن سوزان : " جميلة الوجه " ص 62 , وعن أمه : " كانت نحيفة " ص 65

وأرى اكتناز الوصف ـ الذى يميزه البعد عن التصوير البلاغى وقلة الصفات , وارتباط الوصف بالحواس الخمس ـ إثراء للنص الروائى فهو مشرك المتلقى فى العمل , فلو طلب من مائة شخص رسم صورة " لسوزان " فسيكون عندنا مائة صورة فكل متلق يراها كما يريد , لا كما يريد الروائى .

;:
2ـ خصوصية الحبكة :
فالرواية المقسمة إلى قسمين : الأول البدء , والثانى الأحراش , يظهر جزؤها الأول على شكل مقطع طويل مكون من أربع وعشرين بنية , داخل كل بنية وحدة عضوية , وإن كان بين البنى بون شاسع , فلا تؤدى البنية الأولى للثانية , ولا تؤدى الثانية للثالثة , بنى تشبه المشاهد داخل السيناريو , ليس لمشهد قوة ولا شرعية وجود بعيدا عن سابقه ولا لاحقة فهى ـ البنى ـ ترصد لحظات دالة مكثفة , رمزية فى حيـاة "عبد الرحمن السيسى " الشخصية الرئيسة والراوى فى ذات الوقت, وتكون مجتمعة صورة ما .
وهذه البنى هى :
ـ البنية الأولى : تشير إلى عبد الرحمن السيسى طفلا يذاكر .
ـ البنية الثانية: زيارة إلى أحد السجون البعيدة.
ـ البنية الثالثة : حديث عن الجدة المريضة والأم وهنية .
ـ البنية الرابعة : حديث عن الحاج إبراهيم وابنته سوزان.
ـ البنية الخامسة: حديث عن موت الأب ولقاء جسدى مع هنية .
ـ البنية السادسة : بيع الأم لجسدها بعدما نضب المال وسجن الأب.
ـ البنية السابعة: سوزان تفضى بحبها لعبد الرحمن .
ـ البنية الثامنة: حديث عن الحمروش .
ـ البنية التاسعة :مرض الأم
ـ البنية العاشرة :حديث مع هنية المجنونة بالشبق.
ـ البنية الحادية عشرة: موت الجدة .
ـ البنية الثانية عشرة: رحيل الحاج إبراهيم وسوزان وتوديع الجدة لهما

الملاحظ على هذه البنى التى سأكتفي بعرضها وجود وحدة عضوية داخل كل بنية, وانسيابها داخل المقطع دون ترتيب أو ترابط يصنع منها ككل وحدة عضوية ,فالجدة التى ماتت نراها تودع جارها في مشهد تال , وعبد الرحمن يعاشر هنية , ثم نراه طفلاً فى مشهد آخر, لكنها - ومع عدم ترابطها - شكلت باقتدار لوحة تهمس بمعنيين, أحدهما ظاهر، والآخر خفى, كما أنها أمدت المتلقى بمعنى مرتب مترابط , فمن هذه البنى يرسخ فى عقل المتلقى صورة :
 لطفل فقد أباه .
 كفلته الجدة والأم.
 نقلت الكفالة قسراً إلى هنية .
 رحيل حبه الأول .
 الانغماس فى عالم هنية القذر.
صورة بين مكوناتها علاقة سببية ما, وأجزم أن رسوخ هذه الصورة المرتبة فى ذهن المتلقى يعنى - دون ريب - أن بين مكوناتها على صفحات الرواية علاقة ترابطية غير ظاهرة ,علاقة تشكل وحدة عضوية , وهذا التفتيت يعكس لنا أغوار "عبد الرحمن " التى لم يغص الروائى فيها مكتفيا بالاعتماد على تقنية بنائية تكفيه عن ذلك الغوص الذى كان سيحتاج إلى صفحات وصفحات .
;:
3ـ شعرية اللغة :

من منجزات نظرية الرواية الحديثة كسر الوهم الشائع عن أن الفن القصصى الذى تتضح فيه سمة الشعرية هو القصة القصيرة فقط، من منطلق أنها أقرب فنون الحكى للقصيدة الغنائية فى إطارها المحدود، وفى اتجاهها الذاتى وإثبات الشعرية للرواية أيضاً, ونرى هذه الشعرية فى رواية " البدء والأحراش" , فقد اعتمد " سعيد بكر" على لغة شعرية تخدم روايته لكن عناصر شاعريتها ليست الصور الخيالية , ولا المحسنات البديعية , ولا الالتفات, ولا القيمة البصرية , ولا التشكيل الأسلوبى, بل هى شعرية القفزات الزمانية فالقفزات الزمانية تجبر المتلقى على العيش فى عالم غير واضح المعالم،عالم أسطورى يسبح فيه المرء نحو شواطىء غير مرئية ، لا يخرج منه إلا إذا استيقظ من عملية القراءة.
ونرى هذا القفز فى قول "عبد الرحمن السيسى " عـن وليده : " حبا على يديه وركبتيه وقلد نباح الكلاب ..كان يخاف الكلاب ولو رآها من النافذة يصرخ فى فزع ..أنا أيضا أكره نباح الكلاب ..تجمعوا فى الفناء الفسيح وراحوا ينبحون بأصوات مقبضة ..جدتى كانت ملقاة على حشية فى الركن ..تواصل عذاب الموت ..برغم أنها فارقت الحياة لم تكف عن النباح ..حملت وليدى وعاهدت نفسى على الترويح عنه هذا المساء " ([11])

إن الزمن فى الفقرة السابقة يقفز نحو الماضى بداية من اللفظة "جدتى" قفزة تجبر المتلقى على الخروج من العالم الذى رسمه لنفسه فى بداية الفقرة, للدخول فى عالم ضدى لا تربطه بالعالم الأول أية روابط شكلية أو شعورية، ثم الخروج للدخول فى عالم ثالث مخالف للعالمين السابقين.

وهو تنقل ، يقرب السرد الروائى من الشعر المحلق صاحبه فى أجواء الخيال الرافض الثبات والاستقرار ,وكأنه يستمد حياته من حركته. ولهذا القفزة "ضرورة فنية فى السياق الروائى، لأن الذات تعتمد فى ترابط السياق على الحـالات الشعورية والنفسية ، والحالات الشعورية لا ترتبط بالديمومة الزمنية من حيث سرد الأحداث الزمنية للذات المتموجة والسابحة فى غياهب الماضى ، وضياع الحاضر، وضبابية المستقبل "([12]) .

;:
4ـ الراوى وطريقة الحكى :
إن الراوى المشارك فى الأحداث المعتمد على ضمير المتكلم " أنا " نجح فى إذابة الفوارق الزمانية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا , كما أنه ألغى الإحساس بوجود مؤلف فقرب الشخصية من نفس المتلقى وألغى الكثير من الاستطرادات التى كان الكاتب سيضطر لها إن اعتمد على الراوى المشاهد " الهو " كما أن ندرة حضور الراوى باسمه ألغى الكثير من الاستطرادات أيضا ؛ فالأسماء خالقة لعلاقات تحتاج إلى سرد لا يتناسب مع حجم الرواية .
والطريقة التى اعتمد عليها الروائى فى الحكى هى طريقة التداعى الحر دون التقيد بزمن أو مواقف , وهى طريقة مناسبة لعرض مضمون ثرى فى مساحة سردية محددة .
إن البدء والأحراش رواية ـ رغم كثرة الأقلام التى تناولتها ـ تستحق الوقوف أمامها مرات ومرات من أكثر من زاوية , فهى علامة من علامات الفن الروائى العربى

:;








[1] ـ البدء والأحراش : ص 84 85
[2] ـ السابق : ص 106
[3] ـ السابق : ص 110
[4] ـ السابق : ص 112
[5] ـ السابق: ص 138
[6] ـ السابق : ص 60
[7] ـ السابق : ص 66
[8] ـ السابق : ص 60
[9] ـ السابق : ص 139
[10] ـ السابق : ص 111
[11] ـ السابق : ص 108
[12] ـ د. مراد عبد الرحمن مبارك : بناء الزمن فى الرواية المعاصرة ص105

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق