فى رواية العباءة لـ.. إبراهيم خطاب
د/ أبو المعاطى خيرى الرمادى
فى روايته المكونة من اثنى عشر فصلا , هى على التوالى [ باب الوخز ـ باب الولاية ـ باب الخضر من السمك ـ باب ربما كان الحجر أبيض ـ مطايا باب الغفلة ـ قالت باب الغربان ـ فى ذكر باب ما ورد من الجمل ـ باب الستر ـ باب الكشف ـ باب الاختيار ـ باب الأعراف ـ باب ما قاله الخليفة ] نلحظ من الجملة الأولى تبرئة الراوى لنفسه مما سيرد فى الحكى , وتأكيده على أنه مجرد ناقل لأحداث دارت عنه , " عن ست الدار ابنة عبد الرحمن المشاط زوجة زرزور الفواز " ص7 , والحرص على تغليف الرواية بشىء من القدسية بالتركيز على كلمة " باب " فى عنوان كل فصل, تلك الكلمة التى تعتمد عليها كتب الفقه والعبادات اعتمادا أساسيا .
تحكى الرواية فى مستواها السطحى الظاهر ,عن العربى أيوب العربى الفلاح الأصيل الذى لا يعرف سوى أرضه, وفأسه , وجمله , وزوجه والأولاد , والترعة , والشمس , والمشنة , والناموس , المجبر على أن يكون وسطيا " لا يمين , أو يسار , ولكن وسط "ص7 مع كراهيته الشديدة للوسط فى كل شىء " فى الأرض ,فى القعدة العربى , فى المطالبة بالحق , بالدم . رد الحقوق "ص17, الذى عاش على هامش الحياة يعانى كثيرا ويرتاح قليلا , حتى فشت الأمراض فى جسده " تآكل الحالب الأيمن والحالب الأيسر وبينهم تضخم المثانة " ص24, انهار من الداخل, لكنه ظل محتفظا بهيئته التى عرف بها " أكلت الإبر والخيوط من جسدى وشربت ,فى كل نقطة من محيط الأرض والقرية والقرى المجاورة , ستجدين بقع دمائى المتناثرة ... إلا وجهى لم يرتكب إثم العمليات , لم أوافق , قال طبيب البندر: أنفك الأفطس محشو باللحمية الداخلية , تساعد على ضيق التنفس , فقلت : أنا العربى , قال : سحنتك السوداء بحاجة إلى كريم يحيلها بيضاء , قلت : استعمل قيالة الظهر بألف كريم , قال : جبهتك العريضة بحاجة لجراحة لهذا الكيس الدهنى البارز , أنا العربى ,فقال: كفيك المشققتين بهما ... قلت : ليس لى أنا " ص54
هذا الراضى بما قسم له , الرافض كل محاولات الأخر لمسخه , أبت الحياة إلا أن تقلب زورقه ، وهو الذى لم يتعلم كيف يركب الزورق مقلوبا , يصاب فى عرضه من أخيه الأصغر, ويرى عاره فى أعين أهل القرية " هؤلاء العالمون العارفون الفاضحون الناهشون لبواطن الأمور وما خفى منها " ص30 ,ويؤكده الطبيب صدفة دون سؤال " عـــــــــقم وراثى " ص27, بطيبته حاول الصمود ,وتناسى كلام النساء , والتسربل بالعفو , والتشبث بوعود السعادة للغافرين ,لكنه لم يقدر على المقاومة, تيبس الجسد " لا أوردة لا شرايين "ص 10, أعلن الطــبيب : إنها جلطة الموت " رفعت جلبابى المتسخ قليلا كثيرا وضعت اسطوانتها المعدنية فوق صدرى تمهلت , رفعتها , تناولت قبضة كفى تلصصت أذناها , تمهلت , نظرت فى عينى أمعنت النظر , بحلقت , تنهدت , سترت ما تبقى من عورتى المشاعة , مدت أصابعها مغمضة عينى الجاحظتين , حوقلت هامسة , شدت من طرف الملاءة فـــــوق وجهى "ص10
بعد موته يحكى لنا العربى أيوب عما حدث من أخيه الذى بصمه على " ورقة ورقتان ثلاث ورقات كم ورقة بصمت عليها لا أذكر , ربما قد بصمت على زوجتى والأولاد "ص13 , وعن وقائع غسله , وسرقة المغسل ومعاونوه أقمشة الكفن , يحكى عن حمله , وعديد النساء , عن النعش الطائر , عن العربى الذى أصبح من الأولياء , وأصبح له مقام , وعن حكايات الناس عن كراماته قبل موته " قصة الثعبان حينما التف حول رقبته وهو نائم , ثعبان أسود , طوله أكثر من مترين , هم العربى بالصحو , فك الثعبان من حلقات جسده الملتفة حول رقبة العربى , واستقام الثعبان على مؤخرته كأنه يداعب العربى , يهمس فى أذنه .. العربى يربت على جسد الثعبان اللدن وهو يبـــتسم ابتسامه ذات مغزى " ص52, عن سؤال الملكين فى القبر,عن الجنة ونعيمها , يحكى مازجا الواقعى بالفانتازى حكيا يتكشف به هدفه الأساسى , حكيا يبين المستوى التحتى الخفى الذى يريده الكاتب من وراء نصه .
فى باطن هذا المستوى الظاهر مستوى أخر أكثرعمقا يعرى فيه الكاتب واقعنا العربى , ويضخم مآسينا أمامنا, يشخص عللنا ويحدد الدواء , فالعربى أيوب العربى هو الوطن الصابر, المفتت بأيدى أبنائه " يسرق الشام من المغرب, والمغرب من الشرق , والشرق من الجنوب , ثم نبيع بعضنا للشمال , وكأنهم لا يعرفون أبعاضهم المتناثرة فيلملمون هذه الأبعاض وكأنها حفن من الغرباء ملقاة بطرق لا حدود لها" ص38,الوطن المنتهك تحت أعين الزعماء " التفت صوب الزعيم كيف له ـ الزعيم ـ أن يرى ويسمع دون أن يحرك ساكنا "ص41, المليء بالمفارقات المبكية , سرقة علنية , والسارقون المعرفون أحرار,وقانون لا يطبق إلا على الفقراء , مثل " صابرة " التى باع زوجها "عبد الحى التربى" القراريط الثلاثة , وسافر إلى العراق , وولديه إلى الكويت , بعد أن " دارت رحى الحرب عاد الثلاثة فى توابيت "ص94 لتنقطع بصابرة الأبية كل أسباب الدنيا , تجمع لها الزكاة , تشترى " جوالين بذنجان أسود , جوال خيار , خمسة أقفاص طماطم , دارت عجلة صابرة بالسوق دون انتظار لأحد " ص94,لكن الوطن الذى يقتل أبناءه يأبى لها الستر, يترك اللصوص منعمين بمال الوطن , ويحاكم صابرة لأنها لم ترفع إعلان بالتسعيرة , ولأنها لم تختم الموازين , ولأنها لا تحمل بطاقة صحية ! يحكم عليها بالسجن عام ونصف العام , لكنها كانت " أقوى من المحكمة , والضابط , أهل البلد , القانون , حين أخذها الخفراء عنوة من بيتها, كنا فى عشرة من شهر طوبة , ببرودته القارصة , ضحكت صابرة فى وجوههم جميعا , ثم استراحت , جثة هامدة , وابتسامة فرحى على وجهها الحزين " ص96, الوطن المثقل بالعلل النفسية المفرقة بين أهله , يمنع الأخ عن أخيه الخير , ولا يمنعه عن العدو , سليم الدرعـــــاوى " منع النسوة ملأ جرارهن غبن شهورا يملأن جرارهن من الترعة وأحيانا من الساقيــة " ص35 ( يركز الكاتب على أصل الاسم قائلا فى الهامش: اختلفت الروايات حول اسمه ـ الدرعاوى ـ إلا أن جدى أكد أن نسبه لمدينة الدرعية بالقطر السعودى ) ,العلل النفسية التى باعدت بين الإخوان , فاعتزلوا وعزلوا من أعاد لهم الكرامة ,الوطن المتخم بالإمعات المنساقون " أنا الذى سوف أكون بدعة لوحدى كل الخلق جوارى كلها بالمسيرة موافقة فرحانة كل الكون لابس لبس العيد أنا معهم أينما كانوا" ص85
هذا الوطن السقيم علاج جروحه ليس التوشح بأقنعة السابقين , والسير على نهجهم ؛ فلكل عصر متطلباته , ولكل زمان رجاله , علاجه الدواء الذى عالج به العربى أيوب جمله , حفنة من تراب الصحراء الدافىء فيلتئم الجرح بالجرح, علاجه العودة إليه .
*****
لقد بلغ الحس التراجيدى عند إبراهيم خطاب درجة عالية من الرهافة , تجسدت فى مشاهد فنية بالـــغة الجودة والإتقان , ساعدت على تعميق المأساة وإلباسها ثوبا إنسانيا رفيع المستوى , نجد ذلك فى اللغة المستخدمة المطعمة باقتباسات قرآنية وإنجيلية وشعرية ومقاطع روائية لآخرين , والتقنيات المتداخلة , [ قطع ،ولصق , وسوابق ولواحق,وفلاش باك ,ورمز (الرقم سبعة ) ومناجاة ,وتلاعب بالضمائر ( الهو / الأنا ) ] والعادات والطقوس والعقائد . فهو يطيل فى مشاهد العديد , ويتفنن فى إخراجها , ويتلذذ بذبح العربى أمامنا وببكائنا عليه , فبعد أن لبس العربى شخصية أخية ( بعد دخوله الجنة ) يسأل نفسه / الأخ " لماذا كانت زوجتى .. اسأل نفسك أولا .. أنا لم أقصر فى شىء من حقوقها .. كيف ذلك وأنت تعود مهدودا من الزرع والقلع وتلقيم الكيماوى .. هل هذا جزائى لأوفر لكم الـ.. ضف إلى هذا البلهارسيا التى أكلت وشربت من صحتك المعلولة .. هل أنت بديلا عنى .. لم أكن وحدى فقد كانت زوجتك لأكثر من .. " ص100
هذه الصورة القاتمة للوطن بجوار الإهداء " مازلت غائبا بين متاهات هذه العباءة ـ مثلكم ـ محاولا استكشاف بصيص من ضياء قادم .. ربما هو قادم "ص5 هى التى غلفت العنوان بغلالة رمزية , وفسرت ( العباءة ) بحياة الذل والمهانة والتدنى .