21‏/03‏/2009

موت الوطن قراءة فى رواية " العباءة "

موت الوطن
فى رواية العباءة لـ.. إبراهيم خطاب

د/ أبو المعاطى خيرى الرمادى
فى روايته المكونة من اثنى عشر فصلا , هى على التوالى [ باب الوخز ـ باب الولاية ـ باب الخضر من السمك ـ باب ربما كان الحجر أبيض ـ مطايا باب الغفلة ـ قالت باب الغربان ـ فى ذكر باب ما ورد من الجمل ـ باب الستر ـ باب الكشف ـ باب الاختيار ـ باب الأعراف ـ باب ما قاله الخليفة ] نلحظ من الجملة الأولى تبرئة الراوى لنفسه مما سيرد فى الحكى , وتأكيده على أنه مجرد ناقل لأحداث دارت عنه , " عن ست الدار ابنة عبد الرحمن المشاط زوجة زرزور الفواز " ص7 , والحرص على تغليف الرواية بشىء من القدسية بالتركيز على كلمة " باب " فى عنوان كل فصل, تلك الكلمة التى تعتمد عليها كتب الفقه والعبادات اعتمادا أساسيا .

تحكى الرواية فى مستواها السطحى الظاهر ,عن العربى أيوب العربى الفلاح الأصيل الذى لا يعرف سوى أرضه, وفأسه , وجمله , وزوجه والأولاد , والترعة , والشمس , والمشنة , والناموس , المجبر على أن يكون وسطيا " لا يمين , أو يسار , ولكن وسط "ص7 مع كراهيته الشديدة للوسط فى كل شىء " فى الأرض ,فى القعدة العربى , فى المطالبة بالحق , بالدم . رد الحقوق "ص17, الذى عاش على هامش الحياة يعانى كثيرا ويرتاح قليلا , حتى فشت الأمراض فى جسده " تآكل الحالب الأيمن والحالب الأيسر وبينهم تضخم المثانة " ص24, انهار من الداخل, لكنه ظل محتفظا بهيئته التى عرف بها " أكلت الإبر والخيوط من جسدى وشربت ,فى كل نقطة من محيط الأرض والقرية والقرى المجاورة , ستجدين بقع دمائى المتناثرة ... إلا وجهى لم يرتكب إثم العمليات , لم أوافق , قال طبيب البندر: أنفك الأفطس محشو باللحمية الداخلية , تساعد على ضيق التنفس , فقلت : أنا العربى , قال : سحنتك السوداء بحاجة إلى كريم يحيلها بيضاء , قلت : استعمل قيالة الظهر بألف كريم , قال : جبهتك العريضة بحاجة لجراحة لهذا الكيس الدهنى البارز , أنا العربى ,فقال: كفيك المشققتين بهما ... قلت : ليس لى أنا " ص54

هذا الراضى بما قسم له , الرافض كل محاولات الأخر لمسخه , أبت الحياة إلا أن تقلب زورقه ، وهو الذى لم يتعلم كيف يركب الزورق مقلوبا , يصاب فى عرضه من أخيه الأصغر, ويرى عاره فى أعين أهل القرية " هؤلاء العالمون العارفون الفاضحون الناهشون لبواطن الأمور وما خفى منها " ص30 ,ويؤكده الطبيب صدفة دون سؤال " عـــــــــقم وراثى " ص27, بطيبته حاول الصمود ,وتناسى كلام النساء , والتسربل بالعفو , والتشبث بوعود السعادة للغافرين ,لكنه لم يقدر على المقاومة, تيبس الجسد " لا أوردة لا شرايين "ص 10, أعلن الطــبيب : إنها جلطة الموت " رفعت جلبابى المتسخ قليلا كثيرا وضعت اسطوانتها المعدنية فوق صدرى تمهلت , رفعتها , تناولت قبضة كفى تلصصت أذناها , تمهلت , نظرت فى عينى أمعنت النظر , بحلقت , تنهدت , سترت ما تبقى من عورتى المشاعة , مدت أصابعها مغمضة عينى الجاحظتين , حوقلت هامسة , شدت من طرف الملاءة فـــــوق وجهى "ص10

بعد موته يحكى لنا العربى أيوب عما حدث من أخيه الذى بصمه على " ورقة ورقتان ثلاث ورقات كم ورقة بصمت عليها لا أذكر , ربما قد بصمت على زوجتى والأولاد "ص13 , وعن وقائع غسله , وسرقة المغسل ومعاونوه أقمشة الكفن , يحكى عن حمله , وعديد النساء , عن النعش الطائر , عن العربى الذى أصبح من الأولياء , وأصبح له مقام , وعن حكايات الناس عن كراماته قبل موته " قصة الثعبان حينما التف حول رقبته وهو نائم , ثعبان أسود , طوله أكثر من مترين , هم العربى بالصحو , فك الثعبان من حلقات جسده الملتفة حول رقبة العربى , واستقام الثعبان على مؤخرته كأنه يداعب العربى , يهمس فى أذنه .. العربى يربت على جسد الثعبان اللدن وهو يبـــتسم ابتسامه ذات مغزى " ص52, عن سؤال الملكين فى القبر,عن الجنة ونعيمها , يحكى مازجا الواقعى بالفانتازى حكيا يتكشف به هدفه الأساسى , حكيا يبين المستوى التحتى الخفى الذى يريده الكاتب من وراء نصه .

فى باطن هذا المستوى الظاهر مستوى أخر أكثرعمقا يعرى فيه الكاتب واقعنا العربى , ويضخم مآسينا أمامنا, يشخص عللنا ويحدد الدواء , فالعربى أيوب العربى هو الوطن الصابر, المفتت بأيدى أبنائه " يسرق الشام من المغرب, والمغرب من الشرق , والشرق من الجنوب , ثم نبيع بعضنا للشمال , وكأنهم لا يعرفون أبعاضهم المتناثرة فيلملمون هذه الأبعاض وكأنها حفن من الغرباء ملقاة بطرق لا حدود لها" ص38,الوطن المنتهك تحت أعين الزعماء " التفت صوب الزعيم كيف له ـ الزعيم ـ أن يرى ويسمع دون أن يحرك ساكنا "ص41, المليء بالمفارقات المبكية , سرقة علنية , والسارقون المعرفون أحرار,وقانون لا يطبق إلا على الفقراء , مثل " صابرة " التى باع زوجها "عبد الحى التربى" القراريط الثلاثة , وسافر إلى العراق , وولديه إلى الكويت , بعد أن " دارت رحى الحرب عاد الثلاثة فى توابيت "ص94 لتنقطع بصابرة الأبية كل أسباب الدنيا , تجمع لها الزكاة , تشترى " جوالين بذنجان أسود , جوال خيار , خمسة أقفاص طماطم , دارت عجلة صابرة بالسوق دون انتظار لأحد " ص94,لكن الوطن الذى يقتل أبناءه يأبى لها الستر, يترك اللصوص منعمين بمال الوطن , ويحاكم صابرة لأنها لم ترفع إعلان بالتسعيرة , ولأنها لم تختم الموازين , ولأنها لا تحمل بطاقة صحية ! يحكم عليها بالسجن عام ونصف العام , لكنها كانت " أقوى من المحكمة , والضابط , أهل البلد , القانون , حين أخذها الخفراء عنوة من بيتها, كنا فى عشرة من شهر طوبة , ببرودته القارصة , ضحكت صابرة فى وجوههم جميعا , ثم استراحت , جثة هامدة , وابتسامة فرحى على وجهها الحزين " ص96, الوطن المثقل بالعلل النفسية المفرقة بين أهله , يمنع الأخ عن أخيه الخير , ولا يمنعه عن العدو , سليم الدرعـــــاوى " منع النسوة ملأ جرارهن غبن شهورا يملأن جرارهن من الترعة وأحيانا من الساقيــة " ص35 ( يركز الكاتب على أصل الاسم قائلا فى الهامش: اختلفت الروايات حول اسمه ـ الدرعاوى ـ إلا أن جدى أكد أن نسبه لمدينة الدرعية بالقطر السعودى ) ,العلل النفسية التى باعدت بين الإخوان , فاعتزلوا وعزلوا من أعاد لهم الكرامة ,الوطن المتخم بالإمعات المنساقون " أنا الذى سوف أكون بدعة لوحدى كل الخلق جوارى كلها بالمسيرة موافقة فرحانة كل الكون لابس لبس العيد أنا معهم أينما كانوا" ص85
هذا الوطن السقيم علاج جروحه ليس التوشح بأقنعة السابقين , والسير على نهجهم ؛ فلكل عصر متطلباته , ولكل زمان رجاله , علاجه الدواء الذى عالج به العربى أيوب جمله , حفنة من تراب الصحراء الدافىء فيلتئم الجرح بالجرح, علاجه العودة إليه .
*****
لقد بلغ الحس التراجيدى عند إبراهيم خطاب درجة عالية من الرهافة , تجسدت فى مشاهد فنية بالـــغة الجودة والإتقان , ساعدت على تعميق المأساة وإلباسها ثوبا إنسانيا رفيع المستوى , نجد ذلك فى اللغة المستخدمة المطعمة باقتباسات قرآنية وإنجيلية وشعرية ومقاطع روائية لآخرين , والتقنيات المتداخلة , [ قطع ،ولصق , وسوابق ولواحق,وفلاش باك ,ورمز (الرقم سبعة ) ومناجاة ,وتلاعب بالضمائر ( الهو / الأنا ) ] والعادات والطقوس والعقائد . فهو يطيل فى مشاهد العديد , ويتفنن فى إخراجها , ويتلذذ بذبح العربى أمامنا وببكائنا عليه , فبعد أن لبس العربى شخصية أخية ( بعد دخوله الجنة ) يسأل نفسه / الأخ " لماذا كانت زوجتى .. اسأل نفسك أولا .. أنا لم أقصر فى شىء من حقوقها .. كيف ذلك وأنت تعود مهدودا من الزرع والقلع وتلقيم الكيماوى .. هل هذا جزائى لأوفر لكم الـ.. ضف إلى هذا البلهارسيا التى أكلت وشربت من صحتك المعلولة .. هل أنت بديلا عنى .. لم أكن وحدى فقد كانت زوجتك لأكثر من .. " ص100

هذه الصورة القاتمة للوطن بجوار الإهداء " مازلت غائبا بين متاهات هذه العباءة ـ مثلكم ـ محاولا استكشاف بصيص من ضياء قادم .. ربما هو قادم "ص5 هى التى غلفت العنوان بغلالة رمزية , وفسرت ( العباءة ) بحياة الذل والمهانة والتدنى .

04‏/03‏/2009

معنى الشعر
فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب
ابن خلدون

من معانى لفظة شعر , العلم , والفطنة , والإدراك , والإشهار . يقول ابن منظور فى لسان العرب " أشعر الأمر , وأشعره به , وأعلمه إياه" (1) ويقول الزمخشرى فى أساس البلاغة " أشعرت أمر فلان جعلته مشهورا " (2)وقد سمى الشاعر شاعرا ؛ لأنه كان " يفطن لما لا يفطن له غيره من معانى الكلام وأوزانه" (3) أى يشعر بما لا يشعر به غيره من الناس .

وقد كـــــــان الشعر عند العرب فى العصر الجاهلى " ديوان علمهم , ومنتهى حــكمهم , به يأخذون , وإليه يصيرون " (4) فتعلموه , فأجادوه وجودوه , فأغناهم عن غيره من الفنون التى عرفتها الأمم الأخرى كالقصة والمسرحية , لكنهم لم يتعرضوا لتعريفه وتحديد خصائصه , وما يميزه عن غيره من الفنون التى كانت معروفة فى ذلك الوقت كالخطابة والحكم والأمثال

لكن عدم وجود تعريف ـ مكتوب ـ للشعر فى العصر الجاهلى لا يعنى عدم إدراك العرب لماهية ومتطلبات هذا الفن وخصائصه ,فلا يمكن أن يكون حكم أم جندب * زوج امرىء القيس الذى فضلت فيه قول علقمة بن عبدة التميمى فى وصف فرسه :
فأدراكهن ثانيا مـــن عنانه يمر كمر الرائــح المتجــــلب
على قول زوجها : فللسوط ألهوب , وللساق درة وللزجر منه وقع أهوج متعب
حكم صادر عن جهل بمفهوم الشعر , فهو يدل على أن أم جندب كانت على وعى ساد وانتشر حول تكنيك الشعر , أو على وجه أخص بالانسجام الصوتى , والترسل اللفظى فى الشعر حتى دون معرفى المصطلحات .كما أن أوصاف الشعر " الوشى ـ البرود ـ الحلى " وألقاب الشعراء " المهلهل " , وتسمية القصائد بـ " سمط ـ يتيمة ـ حولية " دليل قاطع على أن الشعر كانت له مفاهيم وتعريفات فى أذهان الجاهليين . وهى معايير " مستمدة من العرف اللغوى السائد والقيم الاجتماعية والأدبية الموروثة بالإضافة إلى الذوق العام " ( 5)


*****


يكاد يجمع الباحثون ـ وأشك فى اجماعهم ـ على أن أول تعريف للشعر ظهرفى القرن الثالث الهجرى , فى مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحى 222هـ الذى عد الشعر " صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر العلوم والصناعات " (6)
والقول بأن الشعر صناعة ينفى الزعم القائل بأن العربى يصدر شعره عن فطرة وعفوية دون مكابدة ,أومجاهدة , وإعمال فكر , كما ينفى الانطباعية عن النقد فى هذا العصر , ويؤكد أن النقاد كانوا يستعينون بمعايير موضوعية ومقايس فنية .

حقا لم يقدم ابن سلام فى هذا التعريف تحديدا منضبطا يوضح خصائص الشعر الذاتية , ولم يضع تعريفا منضبطا يتناول ماهية الفن الشعرى , لكننا ندرك من خلال تقسيمه الشعراء إلى طبقات , ومن الأسس التى اعتمد عليها فى هذا التقسيم , أنه يرى الشعر فنا لغويا يقوم على تصوير المعنى . وهذا يبدو من وضعه امرؤ القيس , النابغة الذبيانى فى الطبقة الأولى من الشعراء .

وقد طور الجاحظ 255هـ تعريف ابن سلام عندما عد الشعر " صياغة وضرب من النسج ومن التصوير " (7) فهويركز على الجانب الفنى من تأليف الكلام وصياغته بطريقة مميزة ,كما نبه للصلة الوطيدة بين الشعر والفنون الأخرى التى تتجانس معه فى الطبيعة التخيلية , وتتفق وإياه فى الجمال الشكلى وإحداثمتعة فنية فى نفس المتلقى , ولعل الجاحظ متأثر فى ذلك بالفكر والأدب اليونانى الذى اعتبر الشعر كالرسم .

إن محاولاتى ابن سلام والجاحظ قد مهدتا الطريق لظهور تعريف صريح للشعر فى القرن الرابع الهجرى فى كتاب الزينة لأبى حاتم الرازى 322هـ الذى عد الشعر " الكلم الموزون على روى واحد , المقوم على حذو واحد , فقد حذى اليت بالبيت حذو النعل بالنعل ,وإنما سموه شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأشياء " ( 8)

والربط بين الشعروالفطنة يرد الشعر إلى نبعه الأصلى الذى خرج منه وهو الشعور , فالفطنة يراد بها " الحشد الشعورى والقدرة الفائقة على التنبيه , وإدراك العلاقات الخفية بين الأشياء والشاعر هو الإنسان الفطن الذى يتنبه إلى ما بين الشياء من صلات قد تخفى على الرجل العادى" (9)

كما مهدت الطريق لابن وهب 322هـ معاصر الرازى الذى حدد من هو الشاعر فى قوله " الشاعر من شعر بشعر فهو شاعر , والمصدر الشعر ولا يستحق الشاعر هذا الاسم حتى يأتى بما لا يشعر به غيره , وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر لما ذكرنا فكل ما كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى " (10)
فهو يربط بين الوجدان والشعر, ويجعله عنصرا أساسيا من عناصر البناء الشعرى , وفى قوله ـ بقصد أو بدون قصد ـ إشارة إلى أهمية المعنى فى البناء الشعرى ؛ فالوجدان لا يظهر إلا فى شعر ذى معنى . فلا يمكن أن نشعر بمشاعر الشاعر فى قول
عجب عجب عجب عجب بقرة تمشى ولــــــها ذنب
أو فى قول : كأننا والماء من حـــــــولنا قوم جلوس من حولهم ماء

وأعد تعريف الشريف الجرجانى إضافة هامة لتعريف ابن وهب , فهو يعد" الشعر كلام مقفى موزون على سبيل القصد " (11) والقيد الأخير يخرج كل موزون لا يقصد به شعر كقوله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر) وقولــــــــــه تعالى ( فذلكن الذى لمتننى فيه ) وقول النبى (ص) : أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ,فكل موزون مقفى لا يكون شعرا إلا إذا قصد به الشعر .
فهذا التعريف يدل على أن الشعر قد أصبح له معيار وقوانين موضوعية , وتقاليد فنية , ولم يعد ذلك الفن العفوى الذى يمكن نذوقه ولا يمكن وصفه . لذا فإننى أرى جل التريفات التى تلت تعريف ابن وهب والجرجانى لم تضف جديدا لمعنى الشعر . فتعريف قدامه ابن جعفر" قول موزون مقفى يدل على معنى" (12) الذى الذى يعتبره الباحثون التعريف الأول الأكثر دقة وشمولية * لا يعد جامعا مانعا فهو يسوى بين الشعر والنثر العلمى " فقد تصاغ الفكرة أو النظرية العلمية , صياغة نظمية وتدل بذلك على معنى , لكنها لا تعد شعرا حسب المفهوم الحقيقى لكلمة شعر " (13) المرتبطة بالشعوروالقصد .

وإن كان تعريف القاضى الجرجانى المتوفى 336هـ " إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والروية والذكاء , ثم تكون الدراسة مادة له وقوة , لكل واحد من أسبابه " (14) إضافة حقيقية لتحديد معنى الشعر بما فيه من إدراك واع لعناصر التجربة الشعرية , وفهم للعوامل التى تسهم فى إبداعه , والوسائل التى تؤدى لنضجه فنيا ,ومن ثم الفصل بينه وبين غيره من العلوم الأخرى فإننى أرى تعريف أبى العلاء المعرى 499هـ " الشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحسن " (15) أول تعريف يضيف للسابقين ؛ فهذا التعريف " على ما فيه من إيجاز يمس قلب الشعر وروحه ويربط بين تجربة الشاعر , وتجربة المتلقى للشعر , بينما لا نحس بأى أثر لذلك فى تعريف قدامة " (16) أو فى تعريفات الذين تلوه., ولو وضعنا بجواره تعريف ابن سينا " الشعركلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة " (17) بما فيه من إشارة لدور الخيال فى الإبداع الشعرى , لكان لنا تعريف للشعرـ التقليدى ـ جامع مانع . يمكن صياغته فى أن الشعر كلام مخيل موزون مقفى ذو معنى مقصود لذلته يصور العاطفة .


*****


لقد ظل هذا المفهوم سائدا من القرن الخامس الهجرى يردده النقاد مع شىء من التصرف حتى بداية العصر الحديث ـ عصر المدارس الأدبية ـ فهو مفهوم الكلاسيكيين * والرومانسيين الذين جعلوه تعبيرا عن النفس الإنسانية وما يتصل بها من التأملات الفكرية والنظرات الفلسفية * و تحرروا من قوانين البحور الخليلية . وقد ظل هذا المفهوم هو السائد حتى بدايات النصف الثانى من القرن العشرين ,حتى ظهرت المدرسة الواقعية الثائرةعلى بحور الخليل , وموسيقى القافية , وعلى ربط الشعر بما يدور داخل النفس الإنسانية *

وفى الربع الأخير من القرن العشرين قويت أمواج التجديد الممتزجة بالتغريب فظهرت وحدة التفعيلة , وبدأ العروض الخليلى فى الانزواء شيئا فشيئا , وبدأت الملامح المميزة للشعر العربى عن النثر فى الضمور , ووازى ذلك محاولات الحداثيين لتمييع مفهوم الشعر , ومحو المعايير الضابطة له , فجعلوا الشعر رؤية , وقالوا إنه ليس نوعا أدبيا بلهو حالة فكرية وروحية تشمل حين تتسع التعبير عن طرائق الحياة , وغيرذلك من الأقاويل الزئبقية التى لم يستطع أصحابها أنفسهم الإمساك بها .

وقد كان من نتائج هذا الهوس الحداثى مولود غير شرعى ,هو قصيدة النثر التى انتهكت حرمة الشعر, وقوضت مفهومه, فى وقت لم يعرف لها أصحابها مفهوما ؛ فمتطاها الكثير من الفاشلين فى إيجادة قواعد العربية , وعروض الخليل ولوبشكله التفعيلى .



الهوامش :

1ـ ابن منظور : لسان العرب
2ـ الزمخشرى : أساس البلاغة
3ـ أبوحاتم الرازى : كتاب الزينة صـ83
4ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراءص 22
*روى أن امرىء القيس كان جالسا بخبائه وعنده زوجه أم جندب , فجاءه علقمة بن عبدة التميمى , وتذاكرا أمر الشعر , وادعى كل منهما لنفسه ما ليس عند صاحبه , فاتفقا على أن ينشد كل منها وتحكم بينهما أم جندب فقال امرؤ القيس قصيدته التى مطلعها : خليلى مرا بى على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب .ووصف فيها فرسه . وعارضه علقمة بقصيدته التى مطلعها : ذهبت من الهجران فى غير مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب . ووصف فيه فرسه . فلما فرغا قضت أم جندب علعلقمة على امرىء القيس, فسألها : بم فضلته على ؟ فقالت فرس ابن عبدة أجود من فرسك ، فأنت زجرت , وحركت ساقيك , وضربت بسوطك , أما علقمة فأدرك بفرسه غرضه ثانيا من عنانه , لم يضربه بسوط , ولم يجهده , فلم يرتض امرؤ القيس حكمها واتهمها فيه وطلقها
5ـ د. أحمد طاهر حسين : روافد النقد الأدبى عند العرب مجلة فصول ديسمبر 1985 صـ 13
6ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراء , صـ 7
7ـ الجاحظ : الحيوان ج 2 صـ132
8ـ الرازى : كتاب الزينة صـ83
9ـ د. عبد الفتاح عثمان : نظرية الشعر فى النقد العربى القديم صـ 20, 21
10ـ ابن وهب : البرهان صـ 120
11ـ الجرجانى : النعريفات ج 1 صـ 167
12ـ قدامة بن جعفر : نقد الشعر صـ13
من الذين تبنواهذا الرأى د. جابرعصفورفى كتابه مفهوم الشعرو د. شكرى عياد فى كتابه أسوطاليس ود. عثمان موافى فى كتابه من قضايا الشعر والنثر ,دعبد الفتاح عثمان فى كتابه نظرية الشعر
13ـ د. عثمان موافى : من قضايا الشعروالنثر صـ 13
14ـ القاضى الجرجانى: الوساطة صـ 15
15ـ أبو العلاء المعرى : رسالة الغفران صـ 242
16ـ د. عثمان موافى : من قضايا النثر , صـ 14
17ـ عبد الرحمن بدوى : فن الشعر صـ161
* يقول البارودى الشعر لمعة خيالية يتألق وميضها فى سماوات الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب , فيفيض بلألأته نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان , فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك , ويهتدى بدليلها السالك " ديوان البارودى "
* رأى الديوانيين الذى لم يرفضه بقية الرومانسيين
* نادى الواقعييون بضرورة تعبير الشعر عن هموم الناس ومشكلاتهم وأمالهم وتطلعاتهم وحيرة إنسان القرن العشرين بين التطلع للكسب المادى الزائل والتمسكب القيم الخالدة .